التاريخ : الخميس 26 يناير 2006 . القسم : رسالة الأسبوع

نظرات في الهجرة وحصاد عام مضى


 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه...

 

فها هو ذا عام هجري يُوشك أن يودعنا، وهي فرصة سانحة لنتدبر معاني هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وننظر في حصادِ عامٍ مضى نظرةَ تأملٍ واعتبار، ترق به القلوب، وتخشع له الأفئدة، وتبصر به العقول، ونحن أصحاب دين أُمرنا أن نسيرَ في الأرض، وندرس أحوالَ العالم، ونتدبر تصريف الله تعالى لكونه الواسع، لتتكاثف في وعي المؤمنين عظات التاريخ، فتكون نورًا يُستضاء به وهدى للسائرين، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾ (الحج).

 

من معاني الهجرة النبوية الشريفة

رضي الله عن عمر بن الخطاب، فقد كان عبقريًّا ملهمًا حين جعل الهجرةَ من مكةَ إلى المدينة مفتتحًا للتأريخ عند المسلمين، بكل ما تعنيه الهجرة من مغزى، حيث مثلت نقلةً هائلة لدعوة الإسلام من حالٍ تُحارَب فيه ويُطارَد رجالُها إلى دولةٍ راسخةٍ، وحقيقةٍ كبرى من حقائق العالم، يُقدِّم للبشرية نموذجًا غير مسبوقٍ لدولةِ الرحمةِ والهداية والانفتاح الإنساني واستشراف المثل الأعلى.

 

لقد كانت الهجرةُ تعبيرًا عن إيمانٍ عميقٍ بالفكرةِ يستعلي على جواذبِ الأرض والعشيرة والأموال، ينصهر فيه الفرد- وكل فرد هاجر كانت خلفه قصة بطولة وفداء- وتتمثله الأسرةُ المسلمة، وما نموذج أُسرتي أبي سلمة وأبي بكر الصديق منا ببعيد، ويقوم عليه مجتمعٌ إيماني توحَّد فيه المهاجرون والأنصار في إيثارٍ معجبٍ وتآخٍ فريد.. وتجلَّت في الهجرة- مع كل ذلك- معاني التخطيط الملزم الذي لا يترك شاردةً بغير نظر، والتوكل المطلق على الله تعالى الذي لا يركن إلى جهدٍ مبذولٍ وتدبيرٍ قويم، فلا حولَ ولا قوةَ- في الحقيقةِ الصحيحة- إلا بالله وحده.

 

وحصاد عام مضى

واتساقًا مع أمرِ الله تعالى لنا بالنظرِ في الأرضِ والتأمل في عظة التاريخ لا بد من وقفةِ تأملٍ عميقٍ تُجمل ما فات، ولا تُغني عن وجوبِ الدرس في حينه لكل حدث، والاستعداد في حينه لكل جديد.

 

غياب عدد من حكامنا:

وقد كان من أبرز أحداثِ العام وفاة عدد من حكامِ العرب والمسلمين: الملك فهد ملك السعودية والشيخ زايد أمير دولة الإمارات، والشيخ راشد آل مكتوم أمير دبي، ثم الشيخ جابر أمير الكويت، وقد كان لكل منهم فضله وخيره، فرحمهم الله جميعًا، وألهم آلهم الصبر، وشعوبهم الحكمة، وشمل خلفاءهم برعايته وسداده.. آمين.

 

وإن مصيبةَ الموت لأحقُّ ما يقف المرءُ منه وقفةَ التأملِ والنظر، ورحمه الله عثمان بن عفان ورضي عنه، فقد كان يبكي لذكر الموت ورؤية القبر أكثر مما يُبكيه سواه، وعندما يُسأل عن ذلك يقول: "إنه أول درجات الآخرة".. فليعمل كل منا لآخرته، وليحاسب نفسه قبل أن يُحاسِبه ربُّه هناك، ويقف بين يديه بغير مانعٍ أو نصير.. وإذا كان ذلك لازمًا على مستوى الأفراد، فهو ألزمُ على مستوى المجتمعاتِ والدول.. إنَّ حكامنا بشرٌ وليسوا آلهةً أو أنصافَ آلهة، يُصيبهم ما يُصيب سائرَ البشرِ من غفلةٍ وخطأ، كما يجري عليهم قدرُ الله بالمرضِ والموتِ والفناء.

 

وينبغي على شعوبنا أن تُدركَ تلك الحقائقَ التي تبدو أحيانًَا غائبةً رغم شديدِ وضوحها، وأن تُذكِّر حكامها بالله، وبما افترضه عليهم من حقٍّ وعدل، وأوجبه عليهم من تجرُّد وإخلاص.. وينبغي على شعوبنا أن تأمرَ هؤلاء الحكام البشر بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر، وأن تكفَّ أيديهم عن سلبِ الحقوق وظلم الناس، وهي حين تفعل ذلك تُسدي إليهم معروفًا جزيلاً، حتى لا يُلاقوا ربهم بظلم، "والظلم ظلمات يوم القيامة"، وحتى تحفظ لهم مكانًا صالحًا في تاريخ أمتهم بعد الرحيل.. والرحيل آتٍ لا شكَّ فيه.

 

وينبغي على علمائنا أن يُذكِّروا حكامهم أنَّ الكرسىَّ الذي يزول بالموتِ ليس نعمةً يحسدهم عليها الحاسدون، بقدر ما هو عبءٌ ثقيل، وأمانةٌ عظمى ومسئوليةٌ أمام الله وأمام الأمةِ وأمام التاريخ.. وأن يؤكدوا في وعيهم ووعي شعوبهم أنَّ ثمةَ طريقةً أُخرى