التاريخ : الخميس 13 ابريل 2006 . القسم : رسالة الأسبوع
أمتنا قادرة على دحر المشروع الاستعماري الجديد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه..
لقد عانت أمتُنا كثيرًا من العدوانِ الأمريكيِّ الأخيرِ على منطقتِنا، والذي استهدفَ هويةَ أمتِنا وثوابتَها وثرواتِها الماديةَ والروحيةَ والعلميةَ، وأرادَ أن يدمِّرَ حاضرَها، ويصادرَ مستقبلَها؛ لتظلَّ دائرةً في فلَكِهِ، ذاهلةً عن حقيقةِ خصوصيتِها الحضارية، ورغمَ ضراوةِ الحملةِ والإمكاناتِ الضخمةِ التي سُخِّرت لها فإننا نلمسُ بوادِرَ تراجعها، وهو تراجعٌ سريعٌ لم يتوقَّعْه أولياءُ ذلك المشروعِ الاستعماريِّ وحواريوه وعَرَّابوه والمبشرون به، بل إن بعضَ المقاومين له كان يتحسَّب لمزيدٍ من العمرِ حتى تنكسرَ حدَّتُه، وتذهب شرّته.. لكنها جاءت بأسرعَ من المتوقَّع.
في العراق..
لقد دخلَ الاحتلالُ الأمريكيُّ والبريطانيُّ للعراق عامَه الرابعَ، وكان قد بذلَ كلَّ ما جادَت به أحقادُه، من إرهابٍ وقمعٍ، فقوَّض أركانَ الدولةِ العراقيةِ وبُناها التحتيةَ ومقدَّراتِها العلميةَ، ونهَب ثرواتِها البتروليةَ، وقتَل- باعترافِه هو- ما لا يقلُّ عن مائةِ ألفِ عراقيٍّ منذ بدأَ الاحتلالُ حتى الآن!!
ونستطيعُ أن نقولَ إن الحقيقةَ تُماثلُ أضعافَ هذه الأعداد، خلا مئاتِ الألوفِ من المصابين والمعاقين والأسرى، الذين انتُهِكت أعراضُهم وأعراضُ نسائِهم في سجونِ الاحتلالِ، ولم يكن سجنُ (أبو غريب) سوى أحدِ الأمثلةِ على ما يَجري فيها، وقد سعَّرَ الاحتلالُ الأحقادَ بين أبناءِ الوطنِ الواحد، ووضَعَ البلادَ على حافةِ حربٍ طائفيةٍ قَذِرةٍ، ذهب ضحيتَها من أهلِ السنةِ وحدَهم نحوُ أربعين ألفًا، ناهيكَ عن ألوفٍ آخرينَ من الشيعةِ وغيرِهم، وأطلقَ "فرق الموت" المدعومةَ بخبراتِ الغزاةِ ومخابراتِهم وعملائِهم لتحصدَ كلَّ يومٍ العشراتِ من أبناءِ شعبِنا هناك، محاوِلاً بذلك أن يكرِّسَ وجودَه المستقبليَّ في أرضِ الرافدَين، حتى رأى الغافلون- وبعضُهم ممن يَعتلي سُدَّةَ الحكمِ في بلادِنا- أنَّ بقاءَ قواتِ الاحتلالِ هناك هو الضمانُ لاستقرارِ البلادِ وانحسارِ فُرصِ الحربِ الطائفية بها، غافلين عن أنَّ الاحتلالَ هو صانعُ هذه الحروبِ، ومُشعلُ نارِها، وهو سببُ قيامِها ومُذْكِي أُوَارِها.
لكنَّ نصفَ الكوبِ الآخر يحمل صورةً أخرى لا تسرُّ أعداءَ الأمةِ، فالاحتلالُ الأمريكيُّ والبريطانيُّ يعيشُ في العراقِ مأزقًا حقيقيًّا، وخسائرُهم من القتلى والمصابين- التي لا يعلنون أبدًا عن حقيقتِها- تتصاعد، وشعبيةُ مجرمي الحربِ وصانعي قرارِها هناك تَصِل إلى أدنى مستوياتها، وتتعالى قوةُ المعارضين لها كلَّ يوم، حتى أعلن رئيسُ الوزراءِ الإيطاليِّ الجديدُ أن أولَ منجزاتِه لشعبِه في حكومتِه الجديدةِ سيكونُ سحبَ قواتِه من هناك، والمتصدُّون لنُذُرِ الحربِ الطائفيةِ- التي يراهنُ عليها الاحتلالُ- يتزايدُ وعيُهم وتأثيرُهم؛ لعلمِهم أنها سوف تأكلُ ما تبقَّى من أخضر ويابس.
وإننا لنرجو من الجارِ الإيرانيِّ أن يكونَ إضافةً حقيقيةً للقوةِ المناوِئةِ للهيمنةِ الغربيةِ والأمريكيةِ، وأن يبذلَ جهودًا حقيقيةً لإزالةِ مخاوفِ طوائفَ كبيرةٍ من الشعبِ العراقيِّ ومِن الشعوبِ العربيةِ والإسلاميةِ مِن مآلاتِ وأغراضِ التدخلِ الإيرانيِّ في العراقِ، وإزالةِ مخاوفَ أخرى لدى الحكوماتِ العربيةِ المجاوِرةِ مِن تنامي القوةِ الإيرانيةِ ودورِها الإقليميِّ.
وفي فلسطين..
أما في فلسطين فإن الدعمَ الأمريكيَّ والغربيَّ للمشروعِ الصهيونيِّ- بل التبنِّي المطلَق له- أمرٌ يشهَد به العالمُ، ولا حديثَ يُذكرُ عن العدوانِ الصهيونيِّ الدائمِ على شعبِنا هناك، ولا عن جريمةِ الاحتلالِ المستمرِّ منذ ثمانٍ وخمسين سنةً، بينما يعاقَب الشعبُ الفلسطينيُّ على أيِّ مقاومةٍ تَصدُر منه لذلك العدوان، ويضعون ذلك في خانةِ الإرهابِ الذي يجب التصدِّي له، وتأليبُ العالمِ عليه!!
لكنَّ المقاومةَ الفلسطينيةَ تحقِّقُ كلَّ يومٍ نجاحًا، لا على صعيدِ المقاومةِ المسلَّحةِ فحسب، بل على صعيدِ استكمالِ مقوِّماتِ المجتمعِ والدولةِ التي أرادَها المستكبرون مجردَ مظهرٍ لا مخبرَ له ولا حقيقةَ وراءَه، وعلى صعيدِ تجذيرِ الوعيِ بخطورةِ المشروعِ الصهيونيِّ القائمِ على العدوانِ والبغيِ، ومحاصرةِ الدعايةِ التي تستهدفُ تجميلَ وجهِهِ القبيحِ، وإظهارَه بمظهرِ مَن يمكن التعايشُ معه والجوارُ له، وسقطت دعواتُ تخديرِ الشعبِ المجاهدِ هناك بمسيرةِ المفاوضاتِ الكسيحةِ التي لم تُحقِّقْ فائدةً بعدُ أكثرَ من عقدٍ من الزمانِ، واختارَ الشعبُ الفلسطينيُّ- في انتخاباتٍ حرةٍ نزيهةٍ وبمراقبةٍ دوليةٍ- حركةَ حماس لتتولَّى مسئوليةَ إدارةِ دولتِه، بعد أن عانَى ما عاناه من فسادٍ سياسيٍّ وماليٍّ وتعويقٍ لحركةِ جهادِه وتحريرِ أرضِه.
وجاء نجاحُ حماس زلزالاً ارتاعَ له الاحتلالُ، واختلَّت حساباتُه، ووجدَ مَن ينساقُ معه من حُماتِه الأمريكيين والأوروبيين، فتعالت تهديداتُهم للحكومةِ الفلسطينيةِ الوليدةِ بوجوبِ الاستسلامِ المطلَقِ للمَطالبِ الصهيونيةِ بالاعترافِ بالكيانِ المغتصِبِ، وتبنِّي الاتفاقياتِ المفروضةِ على شعبِنا هناك، في ظلِّ موازينِ القوى المختلَّةِ مع العدوِّ، وتفكيكِ البنَى التحتيةِ للفصائلِ المجاهدةِ، والتفاوضِ المفتوحِ مع المحتلِّ بغير شرطٍ، وإلا واجه الفلسطينيون وحكومتُهم- التي اختاروها بإرادتِهم- العقوباتِ الاقتصاديةَ والحصارَ الجائرَ، بل حملَت لنا الأخبارُ نَبأَ تخصيصِ الولاياتِ المتحدةِ- التي ضنَّت بالمساعداتِ المقرَّرةِ سلفًا للفلسطينيين- اثنين وأربعين مليونًا من الدولاراتِ للعملِ على هدمِ الحكومةِ الفلسطينيةِ الوليدةِ، وتشجيعِ الفلسطينيين على إيجادِ بديلٍ لها، بل قدَّمت إحدى لجانِ الكونجرس الأمريكيِّ مشروعَ قانونٍ لمكافحةِ ما أسمته بـ"الإرهابِ الفلسطيني"(!!) يُلزِم حكومتَها بممارسةِ مزيدٍ من الضغوطِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ على حكومةِ حماس وممثِّليها.
زَيف دعاوى الديمقراطية الغربية والأمريكية
والمؤكَّد أن كلَّ ذلك الذعر لم يكن ليتولَّدَ لو كان الكيانُ الذي يواجهونه ضعيفًا.. إن الخيارَ الديمقراطيَّ للشعبِ الفلسطينيِّ جعلَ دعاةَ الحريةِ والديمقراطيةِ في الغربِ لا يُبالون بالانقلابِ على بضاعتِهم التي طالما روَّجوا لها، بعد أن أدركوا أن جهودَهم على مدى عقودٍ من الزمنِ- لإبعادِ الإسلامِ عن دائرةِ الفعلِ السياسيِّ وتحييدِه في مواجهةِ العدوانِ الغربيِّ والصهيونيِّ- قد ذهبت أدراجَ الرياحِ.
لقد أفصحت الأحداثُ عن أن الديمقراطيةَ والحريةَ وحقوقَ الإنسانِ وكلَّ تلك القيم- التي طالما روَّج لها الغربُ وبشرَّت بها أمريكا- هي مجردُ أداةٍ لتحقيقِ المآربِ الغربيةِ والأمريكيةِ بغيرِ تجرُّدٍ ولا نزاهةٍ حقيقيةٍ، أفإن أتت الديمقراطيةُ بعملاءِ أمريكا والغربِ استحقَّت الثناءَ العاطرَ، وإن أتَت بأحرارٍ يناوئون المخططَ الغربيَّ والأمريكيَّ استوجَبت اللعنَ والتأثيمَ؟!
إنَّ افتضاحَ ذلك الزيفَ الإيديولوجيَّ للحضارةِ الغربيةِ المعتديةِ لَهُوَ أحدُ بداياتِ التراجعِ الأكيدِ لها، وأُفولِ نجمِها قريبًا إن شاء الله.
لقد كان (الإخوان المسلمون)- بفضل الله- في طليعةِ مَن نظرَ إلى الدعاوَى الأمريكيةِ العريضةِ بتشجيعِ الديمقراطيةِ والحريةِ في بلادِنا نظرةَ ارتيابٍ وشكٍّ، وأكدوا أن التاريخَ المُظلمَ للاستعمارِ الأمريكيِّ في منطقتنا والعالم، وتأييدَه المستمرَّ للأنظمةِ الطاغيةِ المستبدةِ، وانحيازَه المطلقَ للمشروعِ الصهيونيِّ، وأطماعَه المعلنةِ في ثرواتِنا تجعلنا منه في شكٍّ مريبٍ.
وإن شعوبَنا إن أرادت نيلَ حريتِها فلا سبيلَ أمامَها إلا أن تنالَها بتضحياتِها وجهدِها، وأن تفكَّ أغلالَ الاستبدادِ عنها بأيدِيْها ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، وأن تدركَ أن الأيدي المجرمةَ- التي تلطَّخت بدماءِ المسلمين ونهبت ثرواتِهم وأفقرت بلادَهم وعزَّزت سطوةَ المستبدِّين فيها- لا يمكن أن تَمتدَّ إليهم بالمَنحِ والعطاءِ دون مقابلٍ ذميمٍ، وغرضٍ لئيمٍ.
يا حكامنا..
لقد بُحَّتْ أصواتُنَا في مناشدتِكم أن تتقوا اللهَ في بلادِكم وشعوبِكم، وأنتم غدًا بين يدَي اللهِ موقوفون في ﴿يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: من الآية 42) ويتم فيه القصاصُ ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(54)﴾ (يونس).
وإن حالة الاستبدادِ والقهرِ في بلادنا آنَ لها أن تنتهيَ، كما آنَ لكم أن تُدركوا حجمَ التراجعِ الذي يشهده المشروعُ الغربيُّ والأمريكيُّ الذي ترتكنون إليه، وحقيقةَ الصحوةِ التي يشهدُها الشارعُ العربيُّ والإسلاميُّ، وأشواقَ شعوبِكم إلى الحريةِ والعودةِ إلى مشروعِها الإسلاميِّ المقاومِ الأصيلِ، وإن شعوبَكم- التي عانت من خطاياكم- سيكونُ من الصعبِ عليها أن تغفرَ لكم تقاعُسَكم عن مدِّ يدِ العونِ إلى شعبِنا في فلسطين اليوم، وهو يعاني حدَّةَ الحصارِ وحربَ التجويعِ؛ لكسرِ إرادته، وترويضِ انتفاضتِه.
كما أننا كلنا أملٌ أن يكونَ أثرياءُ العربِ والمسلمين عند حسنِ الظنِّ بهم، وأن لا يكونوا ممن يكنزون الذهبَ والفضةَ ولا ينفقونها في سبيلِ اللهِ، بل إن الأمرَ جللٌ، يحيط بكل مسلمٍ يسمعُ نداءَ رسولِه الكريم- صلى الله عليه وسلم-:"ليس منا من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم".
ولا أظننا في حاجةٍ إلى تذكيرٍ بأن شعبَنا الصامدَ في أرضِ الإسراءِ لا يطلبُ إلا بعضَ حقِّه، وهو يؤدي ضريبةَ الدمِ من نفوسِ شبابِه ونسائه وشيوخِه وأطفالِه، وهو يحمي كرامةَ الأمةِ، ويتصدَّى للغاصبِ الصهيونيِّ الذي استقوى بتقاعسِ القاعدين..﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
إن أمتنا إنْ هي توكلت على ربِّها، وتمسَّكت بدينِها، واستخدمت الإمكانات التي سخَّرها اللهُ لها، وتكاتَفَت حكوماتُها مع شعوبِها.. لقَادرةٌ بإذنِ اللهِ على أن تدحَرَ المشروعَ الاستعماريَّ الغربيَّ الجديدَ وتردَّه على أعقابِه، وتُعيدَ معه أحداثَ التاريخِ السابقِ في حطين وعين جالوت والمنصورة وغيرها، وما ذلك على الله بعزيز..
وصلَّى اللهُ على محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم.. وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.