التاريخ : الخميس 18 مايو 2006 . القسم : رسالة الأسبوع
يا أمة الإسلام.. نصر الله قادم ولكن لا بد من تضحية وجهاد
من قلبِ ظلامِ الليلِ يبزغ نورُ النهار، ومِن جوفِ لهيبِ النارِ يخلص الذهبُ النضَّار، ومِن وسطِ آلامِ المخاضِ يَهلُّ الوليدُ نابضًا بالحياةِ، هذه هي سنةُ اللهِ، فالأهدافُ العظامُ لا بدَّ لها من تضحياتٍ جسامٍ ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)﴾ (البقرة).
منذ ثمانيةٍ وخمسين عامًا ونحن كمسلمين- وفي القلبِ منَّا أهلُ فلسطين- نتجرَّعُ مرارةَ الظلمِ والقهرِ، بعد أن أصبحنا ضحيةَ أكبر مؤامرةٍ دوليةٍ غيرِ أخلاقيةٍ وغيرِ إنسانيةٍ وغيرِ قانونيةٍ في النصفِ الثاني من القرن العشرين، شارك فيها البريطانيون والأمريكيون والروس والأوربيون بتمكينِ الصهاينة من إقامة دولةٍ لهم على أنقاضِ دولةِ فلسطين العربية والإسلامية وعلى أشلاءِ كثيرٍ من أهلِها، بعد أن قاموا بمجازرَ وحشيةٍ للفلسطينيين العزَّل؛ لإرهابِ الباقين وإجبارِهم على الهروبِ، مخلِّفين أموالَهم وديارَهم ومُدنَهم وقُراهم لإحلال اليهود المشتَّتين في بقاع العالم محلَّهم، في احتلالٍ استيطانيٍّ عنصريٍّ عدوانيٍّ توسعيٍّ.
ورغم البطولاتِ العظيمةِ النادرةِ التي سطَّرَها المتطوعون المسلمون، وعلى رأسِهم الإخوان المسلمون، وكذلك بعضُ الجيوشِ العربيةِ.. إلا أن المؤامرةَ الدوليةَ- والتي شاركَ فيها للأسفِ الشديدِ بعضُ الحكامِ العرب- كانت أكبرَ من طاقتهم.
ومنذ قامت هذه الدولةُ الغاصبةُ لم تعرف المنطقةُ طعمَ الهدوءِ والاستقرارِ، بل تعاقبت الحروبُ والقتالُ حتى كانت حرب 1967 التي استولت فيها الدولةُ الصهيونيةُ على كاملِ الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشريف وسيناء والجولان ثم بعد ذلك جنوب لبنان، ويومها تبجَّح قادة الصهاينة، وزعموا أنه ليس هناك شيءٌ يسمَّى فلسطين، وليس هناك شعبٌ اسمه الفلسطينيون.
وفي عام 1973 قامت حربُ رمضان المجيدة التي قضَت على أسطورةِ الجيشِ الصهيوني الذي لا يُقهر، ولكن للأسف تفرَّقت الدولُ العربيةُ بعد الحربِ وخرجت مصرُ (القوة العربية الكبرى) من معادلةِ الصراع، تاركةً الباقين يواجهون مصيرَهم، وظنَّ كثيرٌ من الناس أن قضيةَ فلسطين قد ماتت، إلا أن الشعبَ الفلسطينيَّ البطلَ فاجأ العالمَ بانتفاضةِ الحجارةِ التي خاضَ فيها ملحمةً مَجيدةً، بصدرٍ عارٍ، ويدٍ خاويةٍ إلا من الحجارة، في مواجهة الدبَّابات والمصفَّحات والمدافع، خاضَها الأطفال والشباب والشيوخ والنساء بسلاح الإيمان بالله وبالحق والرغبة في الشهادة، ثم أعقبَها بانتفاضةِ الأقصى؛ غضبةً لتدنيس السفاح شارون أرضَ المسجدِ الأقصى، ثم طوَّرَها باستخدام الأسلحة الخفيفة التي تَمكَّن من الحصول عليها، والقنابل البشرية الاستشهادية التي تَحرص على الموت والشهادة أكثر من حرص عدوِّهم على الحياة.
وتهافت الشبابُ بل والفتياتُ على ذلك، فكان في موتهم واستشهادهم حياةٌ لقضيتهم، واضطُّر العالمُ كله- بما فيهم الصهاينة- إلى الاعتراف بالفلسطينيين وحقِّهم في دولةٍ مستقلةٍ، إلا أن المؤامرات لم تتوقف، فلا تزال عمليةُ اغتصابِ مزيدٍ من الأراضي وإقامةِ مستعمراتٍ عليها جاريةً، وكذلك إنشاء جدار الفصل العنصري الذي يُحوِّل الباقي من أراضي الضفة إلى زنازين داخل سجن كبير، إضافةً إلى عمليات القتل والتدمير والاعتقال اليومية.
تحت هذه الظروف القاسية اختار الشعب الفلسطيني حركة المقاومة الإسلامية حماس لتشكيل حكومته في انتخاباتٍ حرَّةٍ نزيهةٍ شهد لها العالم بذلك، وهنا تجلَّى النفاقُ الغربيُّ الكبيرُ، وعنصريتُه البغيضةُ، وانعدامُ إنسانيته، في دعوتِه لحصارِ الشعب الفلسطيني وقطع المعونات عنه، بل وعدم السماح للحكومات والشعوب العربية والإسلامية بتوصيل مساعداتها إليه، في ظلِّ إرهابٍ أمريكيٍّ سافرٍ، تولَّى كبْرَ هذه الحملةِ الظالمةِ التي تستهدف تجويعَ شعبِ فلسطين وتركيعِه، فعليه أن يختارَ إما أن يموتَ جوعًا أو يُسقِطَ حكومةَ حماس أو يُجبرَها على الاعترافِ بدولةِ الصهاينة، والتخلي عن المقاومةِ والجهادِ.
ولكنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ الصابرَ الصامدَ البطلَ رفضَ هذا الإرهابَ والابتزازَ، وأظهر ثباتًا منقطعَ النظيرِ، وهو ما يقطعُ لدينا أن النصرَ قادمٌ- بإذن الله- مِن رحمِ هذه المأساةِ والمعاناةِ، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- يخبرنا بأن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكربِ، وأن مع العسر يسرًا، وسيرته تُحدثنا بأنه وأصحابه حوصروا ثلاثة أعوام في شِعْب أبي طالب حصارًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ حتى اضطُّروا إلى أكل ورقِ الشجرِ، ثم خرجوا منتصرين، والله عز وجل يصبِّرنا في قوله: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ (النساء: من الآية 105) إن تكونوا تألمون بالقتلِ والجرحِ والجوعِ والتدميرِ والاعتقالِ فإنهم يألمون بالخوفِ والرعبِ والقلقِ وفقدِ الاستقرار، وترجُون مِن الله النصرَ أو الشهادةَ في الدنيا وأجرَ الشهداء في الجنة في الآخرة.
فيقينُنا يؤكد ودروسُ التاريخ تُثبت أن قوةَ الباطل وضخامةَ أسلحتِه تتحطَّم على صخرة الإيمان بالحق والثبات عليه، وأن الأخيرَ هو المنتصرُ ولو كان يُسام التعذيبَ والنَّكالَ ما دام معتصمًا بالله مستمسكًا بالحق صُلبَ العزيمةِ حديدَ الإرادة.
وإخواننا- بفضل الله- في فلسطين ثابتون على عدم الاعترافِ باغتصابِ أرضِهم، حريصون على تطهير مقدساتهم وعودة أهلِهم إلى بلادِهم وديارِهم، وحتى لو رآه المهزومون مستحيلاً أو كان في حقيقته بعيدًا فإن الثباتَ على ذلك والصبرَ على دفع ضريبته هو قمة الانتصار.
وقد يفتُّ في عضد البعض أو يثبِّط همَمَهم أو يبعث شيئًا من اليأس في نفوسهم تقاعسُ عددٍ مِن حكام العرب والمسلمين عن نصرةِ إخوانهم، بل تواطؤهم مع المؤامرة الدنيئة؛ ولهؤلاء نقول: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ(87)﴾ (يوسف).
ونقول إن عبرةَ التاريخِ تعلمنا أن الحكامَ كثيرًا ما فرُّوا من المعاركِ، وتحمَّل الشعوبُ أعباءَها، فالمماليك هُزموا إبَّان الحملةِ الفرنسيةِ، وفرَّ بعضُ قادتهم إلى الصعيد، وهنا قادَ علماءُ الأزهر شعبَ مصر في الثورة على الفرنسيين مرتَين خلال ثلاثةِ أعوامٍ، وقَتل طالبٌ أزهريٌّ من حلَب قائدَهم كليبر، ففقدوا الأمان واستولى عليهم الرعب، حتى رحَلوا خاسئين، وفي الجزائر التي اعتبرتْها فرنسا امتدادًا جغرافيًّا لها واحتلتها 130 عامًا تزعَّمت المقاومةَ جمعيةُ العلماء بقيادة عبد الحميد بن باديس واستمرت الثورة ثورة المليون شهيد؛ حتى اضطُّرت فرنسا إلى الانسحاب خاسرةً.
ولماذا نذهب بعيدًا؟ ألم يحتل الصليبيون مناطقَ كثيرةً من بلاد الشام، وأقاموا ممالكَ فيها، ومن بينها بيتُ المقدس، وحوَّلوا المسجدَ الأقصى إلى كنيسةٍ بعدما قَتلوا فيه نحوَ سبعين ألفًا من المُحتَمين به من المسلمين، ومكَثوا فيه ما يزيد على تسعين عامًا، حتى هزمَهم الجيشُ المصريُّ بقيادة صلاح الدين الأيوبي في حطين، ثم حاصر مدينة القدس، وأجلى الصليبيين عنها آمنين، وكان في مقدورِه أن يثأر للمذابحِ الصليبية ولكنها أخلاقُ النبلاء وأخلاقُ الإسلام.
أيها المسلمون.. إننا نرى نصر الله في أحلكِ الظروف وأصعبِ الأحوال، ولكنَّ نصرَ اللهِ لا بدَّ له من ثمنٍ وتضحياتٍ، فلا بد أن نجاهدَ لنغيِّر أنفسَنا، ونصلِحَ أحوالَنا، ونفرضَ إرادتَنا كشعوبٍ على حكامِنا، علينا أن نُجاهد، كلٌّ بما يستطيع وبحسب الظروف التي يعيش فيها، فمِن جهادٍ بالقلم واللسان من العلماء لإصلاح الأمة وتعبئتها، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، ومِن جهاد بالمال، وهو واجبُ اللحظة؛ حتى لا نتركَ إخوانَنا فى فلسطين فريسةً للحصار الوحشيِّ القاتل، وعلينا أن نضغطَ من أجل توصيلِه إليهم وإغنائهم عن الحاجة للأشرار اللئام، ومِن جهادٍ بالفكر والعلم والبحث العلمي والتطبيق؛ من أجل نهضة الأمة وقوتها ومناعتها، ومِن جهادٍ بالجهد والعمل والإنتاج لتحقيق الاكتفاء والاستقلال وحرية الإرادة والقرار، وأخيرًا الجهاد بالروح والنفس لمقاومة المحتل الغاصب وتحرير الأرض واستعادة الحق.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)﴾ (العنكبوت) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200)﴾ (آل عمران).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.