التاريخ : الخميس 15 يونيو 2006 . القسم : رسالة الأسبوع

فلسطين بين فجور أعدائها.. وتخاذل أوليائها


 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومَن والاه..

من سنن الله في الكون سنة "المدافعة"؛ فالكون والحياة يقومان على ثنائيات متغالِبة يدفع بعضها بعضًا، فالخير يدفع الشر، والحق يغالب الباطل، وكذا الأمر بين العدل والظلم، والإعمار والإفساد، والحرية والاستعباد.

 

وإنْ تخلَّفت المدافعةُ بسبب سكون الخير وأهله، عمَّ الفساد والإفساد.. ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 41).. إنَّ ذكْر الصلاةِ في الآية السابقة يخبرنا أن غرض الإفساد الرئيس يتجه إلى هدم الدين، وهدم الإنسان حامل هذا الدين، قبل أن يتجه إلى هدم مكان العبادة والصلاة، فالإفساد يتجه دومًا إلى المسلم هدمًا وقتلاً وتدميرًا، ومن ثمَّ أوجب الإسلامُ على المسلم أن يقوم بالمدافعة حفظًا لدينه ودمه، وتحقيقًا للعدل والحرية، وممارسةً للحياة وفْق مقتضيات الاستخلاف في الأرض.

 

الإسلام لا يكتمل بغير مدافعة

ولا خيارَ للمسلم بين أنْ يمارس المدافعة الرافعة للإفساد، أو أن يترك المفسدين في الأرض وما يعن لهم؛ لأن إسلام المرء لا يكتمل بغير المدافعة، كما أن الحياةَ الحرةَ الكريمةَ لا تكون بغير مدافعةٍ وأمرٍ بمعروف ونهيٍّ عن منكر.. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..﴾  (آل عمران: من الآية 110).

 

إن تقاعسَ الأمم السالفة عن نصرةِ دين الله استدعى لها الخسف والتدمير، غير أن الله سبحانه رفع الخسف والإهلاك عن أمة محمدٍ- صلى الله عليه وسلم-، واستبقى قاعدة العقاب حية تلاحق مَن تخلَّف عن نصرة دينه وترك مدافعة الظالمين.

 

وحين غابت المدافعة غاب "التمكين" للأمة الإسلامية، وتخلَّف التفضل الرباني عليها، وكان من نتائج ذلك إفساد دين الأمة وفساد حياتها، وتسلط اليهود والصليبين عليها، فاغتصب اليهود فلسطين، وتحكَّم الغرب في المنطقة العربية والأمة الإسلامية.

 

معايشة واعية

وهكذا عاش الشعب الفلسطيني- منذ ظهور الكيان الصهيوني العنصري على أرضه- كبرى مآسيه الحياتية والدينية بسبب فجورِ العدو وحربه على الإسلام والمسلمين، وحين يعايش الشعب الفلسطيني مأساته ومأساة وطنه، بل مأساة دينه ومقدساته معايشةَ المؤمنين الفاهمين الواعين يُدرك أنه لا سلامةَ لدينه ووطنه ونفسه إلاَّ في ظل حقيقة تقول: "إن فلسطين أرض إسلامية منذ الفتح الإسلامي لها في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لا يجوز التفريط في شبرٍ واحدٍ منها تحت أي ظرفٍ من الظروف، وإنها ملك لأجيال المسلمين طال عمر الاحتلال عليها أم قصر، وإن ما يحدث على هذه الأرض من تغيرات يفرضها واقع القوة والعلو الصهيوني المستقوي بالضعف العربي والإسلامي، والمدعوم بالقوة الاستعمارية الغربية- والأمريكية على وجه الخصوص- لن يغير من طبيعة الحق الفلسطيني لا على مستوى الدين ورؤيته، ولا على مستوى التاريخ وشهادته، ولا على مستوى الحياة الكريمة التي ينشدها الوطني في أرضه وبين أهله وشعبه".

 

لقد وقعت نكبة فلسطين في زمنٍ غفل فيه أهل فلسطين وغيرهم من الشعوب العربية والإسلامية عن دينهم وحقوقهم، وتسلَّم القيادةَ فيها أناسٌ لم يقوموا على حراسة الدين أو سياسة الرعية بما يصلح شأنها، ويحقق لها العزة والسيادة بين الأمم، فكانت النتيجة أن ضاعت فلسطين، وقويت شوكة المحتل، حتى أذن الله سبحانه للصحوة والمقاومة أن تنمو من ركام الهزائم والفشل، وعاد مفهوم المدافعة إلى الوجود وظهرت في فلسطين حركات تطرح خيار المقاومة خيارًا وحيدًا؛ لأنه لا خيارَ غيره يمكن أن يحقق للوطن الحرية، وللدين العودة والسيادة، ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: من الآية 251).

 

العدو يحشد أجناده

ولم يكن العدو ومَن يدعمونه ليقبلوا بهذا الأمر بسهولةٍ فحشدوا أجنادهم وطاقاتهم للفتك بالشعب الفلسطيني وعاثوا فيه قتلاً وتشريدًا، وحصارًا وتجويعًا، فانكشف بعض مَن كانوا يدَّعون أنهم أبطال المقاومة وفرسان النزال، ورفعوا راياتِ الاستسلام وسلَّموا للعدو بما يريد، ولكنَّ هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم، تشهد على ذلك الانتخابات الأخيرة التي انحازت فيها غالبية الشعب الفلسطيني لصالح خيار المقاومة والجهاد.

 

واليوم نرى محاولاتٍ مكشوفة ومشبوهة للالتفاف على إرادةِ الشعب الفلسطيني، وسعيًا لتضييع ما تبقَّى من حقوقه، وإحداث فرقة وانقسام داخل الشعب الفلسطيني ومحاولات لفرض وجهة نظر متخاذلة مستسلمة على الشعب الفلسطيني كله.

 

إن جهاتٍ محسوبة على منظمةِ التحرير الفلسطينية تدفع باتجاه الحصول على صكِّ اعترافٍ من الشعب الفلسطيني بالتنازل عن غالبيةِ أرضه للمغتصب الصهيوني، والقبول بأي حلٍّ على أي بقعةٍ من الأرض، مع استعدادها للتخلي عن فكرةِ حق العودة تحت مبررات الوضع الدولي الذي يميل لصالح العدو، والغريبُ أنهم يفرطون ويستسلمون ثم يزعمون أنهم يحافظون على الثوابت الفلسطينية! وأول ثوابت القضية الفلسطينية، أنه لا يجوز التفريط في شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين؛ فأرض فلسطين حقٌّ لأهلها ولكافة العرب والمسلمين؛ والقضية الفلسطينية هي قضية كل العرب والمسلمين، وليست قضيةَ الشعب الفلسطيني وحده بما يعنيه ذلك من حمايةِ المقدسات وتحريرٍ كاملٍ للأراضي الفلسطينية وتحمُّلٍ للمسئوليةِ وتقديم التضحيات اللازمة ودعم الشعب الفلسطيني بكلِّ أنواع الدعم المادي والمعنوي.

 

حقوق غير قابلة للانتقاص

وهذه الحقوق غير قابلة للانتقاص، ولا يجوز لأي جهةٍ التفريط فيها، كما لا يجوز لأي جيلٍ من الأجيال بأي حالٍ أن يُفرِّطَ فيها تحت أي دعاوى أو مبررات.

 

وحتى على صعيد قرارات الشرعية الدولية فإن تلك القرارات لا تزال تعترف بقضية اللاجئين وحق العودة، وهو حقٌّ تاريخيٌّ وإنسانيٌّ لا تلغيه التغييراتُ الديموجرافية، وهو جوهر القضية الفلسطينية وأي حلٍّ بدونه لن يكون حلاًّ ولن يوجد سلامًا.. إن شعوبنا لا ترفض السلام العادل الحقيقي، لكنها ترفض المفاوضات الشكلية الهزلية التي تفضي إلى مزيدٍ من الضياع للحقوق.

 

وامتلاك العدو للقوة واستظهاره بالقوى الدولية المناصرة له وبالسياسة الإقليمية الساكتة عن تصرفاته لا تعني الاستسلام والتفريط في الحقوق؛ لأن ديننا لا يسمح بالقبول بضياع الأرض وتدنيس المقدسات.

 

وينتصر الحق في نهاية المطاف

إن من معالمِ الصراع بين الحق والباطل أن ينتصر الحق في نهاية المطاف، بعد أن يراوح المؤمنون في مراحل الصراع بين النصر والهزيمة.. وبعد أن يطول البلاء على المؤمنين، ويشتد الكرب يتمخَّض عن هذه المحنةِ انتصار واضح للحق وأهله على الباطل بكل أشكاله وألوانه، فينصر الله عباده المؤمنين، ويهزم أعداءه، ويجعل الدائرةَ عليهم والهزائم تترى تلاحقهم ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)﴾ (سبأ).. ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18).

 

هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل والباطل طارئ لا أصالةَ فيه، ولا سلطانَ له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه.. ولقد يُخيَّل للناس أحيانًا أن واقعَ الحياة يخالف هذه الحقيقة، وذلك في الفتراتِ التي يبدو فيها الباطل منتفشًا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزويًا كأنه مغلوب.. وإن هي إلا فترة من الزمان، يُمهد الله فيها ما يشاء للفتنة والابتلاء ثم تجري السنة الأزلية الباقية.

 

والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدقِ وعده، وفي أصالةِ الحق، وفي نصرة الحق فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينًا من الدهر عرفوا أنها الفتنة، وأدركوا أنه الابتلاء، وأحسوا أن ربهم يُربيهم؛ لأن فيهم ضعفًا أو نقصًا، وهو يريد أن يُعدَّهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستارة القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف.. وكلما سارعوا إلى العلاج قصَّر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء.. فلتسارع الشعوب والحكومات إلى العلاج المتمثل في التمسك بشرع الله والعمل به.. يقول تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)﴾ (الأنفال).. ويقول سبحانه: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)﴾  (الشورى: من الآية 24).. ويومها ﴿..سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227).

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم