التاريخ : الخميس 06 يوليو 2006 . القسم : رسالة الأسبوع

الخروج من المأزق الفلسطيني


 

رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن والاه..
يتواصل العدوانُ الصهيونيُّ على الشعبِ الفلسطينيِّ الشقيقِ، ويتمادَى العدوُّ في طغيانِه، فيدمرُ البنَى التحتيةَ ومؤسساتِ الدولةِ والمدارسَ والمنازلَ والجسورَ ومحطةَ الكهرباء، ويَعيث فسادًا في كلِّ شبرٍ من أرضِ فلسطين، وكأنَّ كلَّ ما سبقَ لم يكن كافيًا لإشباعِ غريزةِ الانتقامِ أو إطفاءِ نارِ الحقدِ الدفينِ في قلوبِ الصهاينةِ؛ إذ يَصدر قرارٌ بقيامِ الجيشِ بعملٍ عسكريٍّ واسعِ النطاقِ ضد قطاع غزة.

 

وكما كان أَسْر الجنديِّ الصهيوني تُكأةً وحجةً لبدء العدوان جاء قرارُ توسيع العدوان بعد أن أطلقت حركةُ حماس صاروخًا على مدينةِ عسقلان، أما الهدفُ الحقيقيُّ الذي يحاول أن يتخفَّى خلفَ المبرّراتِ المعلَنةِ فهو كسرُ إرادةِ الشعبِ الفلسطينيِّ، واستغلالُ المواجهةِ الحاليةِ لفرضِ الإرادةِ السياسيةِ والأمنيةِ الصهيونيةِ على الشعبِ الفلسطينيِّ، ومحاولةُ إظهارِ عُقمِ المقاومةِ وعدمِ جدواها؛ لأن العدوَّ لا يقدم أيَّ "تنازل" مقابل عمليات المقاومة مهما كانت.

 

لقد عبَّرت وزيرةُ التعليم "يولي تامير" عن حقيقةِ الموقفِ الصهيونيِّ بقولها: "إن تلَّ أبيب تريد إقناعَ الفلسطينيين أنهم "يُخطِئون خطأً كبيرًا باعتمادِهم على حركةِ حماس وعلى نهجِها في التعاطي مع إسرائيل"، وتضيف بقولها: "الويلُ لنا إنْ سمَحْنا لحركةِ حماس أن تنجحَ في هذه المواجهة.. الويل لنا لو قُمنا بالإفراجِ عن أسرى فلسطينيين بناءً على إملاءاتٍ تحاول حركةُ حماس فرضَها علينا.. إن هذه هي الوصفةُ الأكيدةُ لسقوطِ ما تبقَّى من عاملِ ردعٍ لإسرائيل في مواجهةِ المقاومةِ الفلسطينية".

 

كما يؤكد وزيرُ الداخلية الصهيوني "روني بارعون" أن الحملةَ العسكرية تهدف للتأثيرِ على النظامِ السياسيِّ الفلسطيني، ومحاولةِ تغييرِ موازين القوى في الساحة الفلسطينية، ودفعِ الرأيِ العام الفلسطيني إلى نزعِ ثقتِه بحماس.

 

أما "يوفال ديسكين"- رئيس جهاز المخابرات الداخلية (الشاباك)- فينصح حكومتَه بأن تستغلَّ العمليةَ العسكريةَ من أجل إحداثِ تغييرٍ إستراتيجيٍّ في المنطقة بأسرها!!

 

ذلك ما يسعَون إليه ويخطِّطون له، ولكنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ- بصمودِه في مواجهةِ محاولاتِ التركيعِ والعقابِ الجماعيِّ، وتطويرِ وسائلِ مقاومتِه، ونجاحِه في القيام بعملياتٍ نوعية جديدة- استطاع أن يضعَ العدوَّ الصهيونيَّ والولايات المتحدة التي تدعمُه والمنظماتِ الدوليةَ والمجتمعَ الدوليَّ الذي أُصيب بالخرس والصَّمَم والحكوماتِ العربيةَ المتخاذلةَ.. استطاع الشعبُ الفلسطينيُّ أن يضعَ هؤلاء جميعًا في مأزق.

 

العدو الصهيوني في مأزق

- العدوُّ الصهيونيُّ في مأزقٍ؛ لأن الفشلَ هو المصير الذي ستئول إليه "أمطار الصيف" على غزة؛ إذ لم يتم العثور على الجندي الأسير، وبينما بدأت الحملةُ من أجل تحريرِه، فإن استمرارَها يزيد فُرصَ ضياع حياته وموته في إحدى الهجمات؛ ولذلك فقد حذَّر والد الجندي من مغبَّة استخدام مصير ابنه من أجل استعادة عامل الرَّدع في مواجهة المقاومة، كما أن استطلاعات الرأي العام تؤكد أن الشارعَ الصهيونيَّ يحث حكومتَه على الموافقة على مطالب المقاومة مقابلَ إخلاء سبيل الجندي الأسير.

- العدو في مأزق؛ لأن العدوان يخلِّف قتلى فلسطينيين في غزة وسيُطالب الشارعُ الفلسطينيُّ بالانتقام، وقد يكون قتلُ الجندي هو وسيلةَ الانتقام في نهاية المطاف.

- العدو في مأزق؛ لأن العمليةَ العسكريةَ عجزت حتى الآن عن تحقيق أهدافِها المعنوية والسياسية، وفي مقدمتها تصفية حركة المقاومة الإسلامية حماس ومنعها من إطلاق الصواريخ في العُمق المحتلّ، ولا تزال المقاومة صامدةً مصممةً على تنفيذ سياسة "انتزاع الأمان" من العدوّ، من خلال إطلاق الصواريخ المحلية- رغم محدودية تأثيرها- على المُدُن المجاورة لقطاع غزة، ولم ينجح الهجومُ العسكريُّ في بثِّ الخوفِ في قلوب المقاومة أو أن يجعلها تتراجع، أو أن يبثَّ الرعبَ في صفوف الحكومة الفلسطينية لتُهادِن.

- العدو في مأزق؛ لأن احتفاظَ المقاومة بالجندي لفترة طويلة يعني تحويله لقضية مماثلة للطيار "رون أراد" الذي أسقطت طائرته فوق لبنان عام 1986 وكان ورقةَ ضغط قوية بيد المقاومة اللبنانية.

- العدو في مأزق؛ لأن الأحداث قد تؤول إلى ورطةٍ عسكريةٍ طويلة الأمد في غزة، كما أن المواجهةَ يمكن أن تقوِّض خطةَ أولمرت للانسحاب الأحادي من الضفة الغربية، التي كانت محور برنامجه الانتخابي.

- العدو في مأزق؛ لأن المقاومة في الضفة الغربية تمكنت من أَسْرِ "مستوطنين"، ولو أنه لجأ للحملات العسكرية الموسَّعة لاستخلاصهما فهذا معناه أنه قد استُدرج إلى "حرب شوارع" وكرٍّ وفرٍّ، وهي أمور ليست من مهمة الجيوش.

- العدو في مأزق؛ لأنه رغم كل القهر والبطش لم يستطع أن يحصل على صكِّ اعترافٍ به من حركات المقاومة، ولا يتعامل مع هذا الموقف إلا باعتباره خارجًا على القانون، فتقديم الوزراء والنواب والقادة السياسيين من حماس- الذين اختطفتهم قوات الاحتلال- إلى محاكمةٍ عسكريةٍ يُعتبر باطلاً قضائيًّا وإجراءً غيرَ شرعي في نظر القانون الدولي الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان، واعتقالاً تعسفيًّا يمس مبدأ الحصانة البرلمانية والمكانة السياسية لأشخاص انتُخِبوا بشكل شرعي وبرعاية دولية.

 

والموقف العربي الرسمي في مأزق

والموقف العربي الرسمي في مأزق؛ إذ إن سقف مواقف النظام العربي الرسمي يتدنَّى أكثر فأكثر، حتى إن البعض غدا يتبنَّى الموقف الصهيوني من حلِّ مشكلة أَسْرِ الجندي.

 

إن الشعب الفلسطيني في أمسِّ الحاجة إلى موقف عربي مساند وقويٍّ؛ حتى لا ينفرد الاحتلال بالمقاومة الفلسطينية، وعلى القوى الشعبية الإسلامية والقومية والاتحادات والنقابات وغيرها أن تُبادرَ إلى تحريك الجماهير للاحتجاج على تخلِّي النظام العربي الرسمي عن الشعب الفلسطيني في محنته، وتذكير القادة العرب أن تنفيذَ غارات وهمية فوق قصر الرئيس السوري في اللاذقية يحمل رسالةً قويةً لهم جميعًا، تكرِّس لصورة جديدة من التعاطي الصهيوني من الأنظمة العربية.

 

الموقف العربي الرسمي في مأزق؛ لأن "أمطار الصيف" لا تخصُّ الفلسطينيين فقط، وإذا كان هناك مَن يرى أن يُترك الفلسطينيون وشأنهم- باعتبار أن منظمة التحرير هي "الممثل الشرعي الوحيد لشعب فلسطين"- فقد أثبت اختراقُ الطائرات الصهيونية للأجواء السورية أن القضيةَ كلٌّ لا يتجزَّأ، وأن أمنَ أيِّ دولة عربية متصلٌ مباشرةً بأمن الفلسطينيين.

 

والإدارة الأمريكية في مأزق أمام العالم

والإدارة الأمريكية في مأزق أمام العالم بعد أن بادرت إلى منحِ العدوِّ الشرعيةَ لمواصلة حملته العسكرية، وتناست المواثيق الدولية التي تعطي الفلسطينيين حقَّ مقاومة الاحتلال، ودافعت عن العدوان بقول المتحدث باسم البيت الأبيض: إن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وعن حياة مواطنيها"!!

 

وهي في مأزق أخلاقي؛ إذ تنكَّرت لكل دعاوَى الديمقراطية التي تُطلقها منذ زمن، وبادرت بحصار الحكومة الفلسطينية والتأليب على التخلص منها، رغم أنها جاءت بطريقة ديمقراطية سليمة.

 

والعالم كله في مأزق

والعالم كله في مأزق بدُوَلِهِ ومنظماته الرسمية وغير الرسمية؛ لأنه أصيب بالخرَس والصمَم، ولم يتحرك لردع المعتدي ووقف همجيته وفق القواعد والقوانين الدولية التي ينادون بها.
والأمم المتحدة في مأزق؛ إذ يكتفي أمينُها العام بالتعبير عن قلقه، بينما يسعى للتدخل العسكري في أكثر من مكان حول العالم وآخرها دارفور.

 

وحدَه الشعب الفلسطيني وقُواه المقاوِمة لا يعيشان في مأزق

وحدَه الشعب الفلسطيني وقُواه المقاوِمة لا يعيشان في مأزق؛ لأن أحدًا لم يستطع أن ينزع منهما إرادتهما الحرة المستقلة، ولا أن ينزعَ منهما أفضل سلاح لديهما، سلاحٌ لا ينتجه العدوُّ الصهيونيُّ ولا تُصدِّره أمريكا.. سلاحٌ من صناعةٍ محليةٍ، متوفِّرٌ لدى الشعوب العربية والإسلامية.. سلاحُ الإيمان والإرادة والعزيمة والصمود .

 

وبرغم العدوان الشرِس تقول المقاومة إنه إذا أُريقت دماءُ الفلسطينيين في غزة فلن تَسلَم من ذلك شوارعُ ومجتمعاتُ الكيانِ الصهيوني.

 

المقاومة ليست في مأزق؛ لأن الهجمات الصهيونية أَسهمت على مستوى الشارع الفلسطيني في تدعيمِ الولاءِ للتوجهِ الإسلاميِّ.

 

المقاومة ليست في مأزقٍ؛ لأن "أمطار الصيف" لن تغيِّر من حقيقةِ عبث أيِّ إجراءاتٍ صهيونيةٍ لفرض حَلٍّ مشوَّهٍ على الفلسطينيين، فضلاً عن دلالتها على قوة المقاومة في الحاضر والمستقبل، بصرف النظر عن مستوى استهدافها وتحوُّلات اللحظةِ الراهنةِ، لا سيَّما وهي متجذِّرةٌ في وعيِ شعبها بما قدمته من تضحيات وشهداء.

 

الشعب الفلسطيني ليس في مأزق؛ لأن "أمطار الصيف" لن تركِّع غزة، ولنتذكر عمليات "السور الواقي"، و"الطريق الحازم"، وسواهما من مسمَّيات عهد شارون البائد.

 

الشعب الفلسطيني ليس في مأزق؛ لأنه شعبٌ مسلمٌ؛ ولأن للحياة في الإسلام فلسفةً متميزةً، قوامُها الإيمانُ والعزةُ والحريةُ، بل إن الحياة الجديرة بالاحترام والتقدير لا تكتمل إلا بالشهادة والاستشهاد؛ ذلك لأن الإيمان والحرية والعزَّة لا تتجسَّد واقعًا في حياة الفرد أو في حياة الأمم- خاصةً حين ظهور الأعداء واغتصابهم للأرض- إلا بالشهادةِ والاستشهادِ.

 

يقول الإمام البنا – رحمه الله - : إن الأمة التي تحسن صناعة الموت، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، فأعدوا أنفسكم ليوم عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لا بد منه، ولا يكون إلا مرة واحدة، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربح الدنيا وثواب الآخرة.

 

إن هذه الرؤية لفلسفة الحياة في الإسلام لا تدركها الثقافات الغربية، بل لا يدركها بعض المسلمين ممن وقفوا عند سواحل الرؤية الإسلامية، ولم يخوضوا غمارَها، وتابَعوا الغربيين في أقوالهم ومفاهيمهم، وأعرضوا عن جواهر دينهم الناطقة بالحق، الصادقة في الإرشاد والتوجيه.

 

الدين في الإسلام قبل الحياة

ولا ننسى أن نذكِّر بسنة الله في أخذِ الكافرين والظالمين، وقد دعانا اللهُ تعالى في كثيرٍ من آياته إلى السيرِ في الأرض لمعرفةِ سنته في أخذِ الكافرين والظالمين، وذكَّرنا في القرآن الكريم بمصارعِ الغابرين والأقوام السابقين؛ ليبيِّن لنا أن هذه سنتُه في كلِّ زمان ومكان، مهما عظُمت دولتُهم وقَوِيت شوكتُهم، ذلك أنهم لما نسُوا الله تعالى هانوا عليه فأهلكَهم، ومضَت قصصُهم عبرةً لكل متجبِّر ومتكبر وظالم، وبقيت آثارُهم عظةً لكل مَن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.

 

وليعلم المؤمنون أن أهلَ الباطلِ مهما بلغت قوتُهم، وصالوا وجالوا فلن يُعجِزوا اللهَ تعالى، وهو لهم بالمرصادِ، ولكنه الإمهالُ والإملاءُ، حتى يَحين أجلُ أخذِهم وإهلاكِهم وزوالِهم ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)﴾ (الشعراء) ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43)﴾ (فاطر).

 

قد يعلو العدوُّ الصهيونيُّ اليومَ كما عَلا بالأمس، وقد تُمِدُّه أمريكا بأسبابِ القوةِ الماديةِ، لكنهما لن يكونا قادرَين على وقفِ المشيئةِ الإلهيةِ في أن ينصُرَ المستضعفين.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(21)﴾ (يوسف).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم