التاريخ : الخميس 24 أغسطس 2006 . القسم : رسالة الأسبوع

في ذكرى الإسراءِ والمعراج وتحرير بيت المقدس


 

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

بسمِ الله، والحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول اللَّهِ ومَن والاه، وبعد..

فقد مرَّ القرآنُ الكريمُ مرورًا سريعًا عندَ ذكرِهِ معجزةَ الإسراءِ في صدرِ سورةِ الإسراء، فلم يستغرقْ في مبتدأ السورةِ سوى آيةٍ واحدة، انتقلَ بعدها الكتابُ العزيزُ إلى حديثٍ مفصلٍ عن بني إسرائيلَ وإفسادِهِم في الأرضِ واستعلائهم فيها بغيرِ الحقِّ، وابتعاثِ عبادٍ لله يتصدَّونَ لإفسادِهِم وشرورِهِم، وتعهَّد الحقُّ سبحانَهُ أن يُرسلَ عليهم مَن يدفعُ صولَتَهُم، ويبسطُ عليهم الذلةَ والصغارَ جزاءَ عُدوانِهم وبغيهم؛ ليتركزَ في وعي كلِّ مسلمٍ الارتباطُ التاريخيُّ الوثيقُ بينَ أرضِ الإسراءِ ومسجدِهَا الأقصَى- ولم يكُنْ وقتَ نزولِ الوحي مسجدٌ، بل كان أرضًا خربةً تفنن الاحتلالُ الرومانيُّ البيزنطيُّ في الإساءةِ إلى قدسيتها- وبيَّن المعركةَ ضدَ فسادِ بني إسرائيلَ في الأرضِ وعُدوانِهُم، تلك المعركةُ المستمرةُ حتَّى يأتي يومٌ تحتشدُ فيه قُوَى الخيرِ جميعًا- بشرًا وحجرًا وشجرًا- ضدَ ذلك الإفسادِ كما أخبرَ المعصومُ صلى الله عليه وسلم.

 

صمودُ لبنان وفلسطين في ذكرى الإسراء

وتزامنَتْ ذكرى الإسراءِ والمعراجِ في عامِنَا هذا مع شهودِ حلقةٍ مجيدةٍ من حلقاتِ الصراعِ ضدَ عُدوانِ بني إسرائيلَ بعدما حققتْه المقاومةُ الإسلاميةُ في فلسطينَ ولبنانَ من صمودٍ في مواجهتِهِ، وإيلامٍ لَهُ، وانتصاراتٍ عليه، فضلاً عن إنعاشِ ثقافةِ المقاومةِ والقدرةِ على تحقيقِ النصرِ على الصهاينةِ والأمريكانِ في نفوسِ وعقولِ جماعاتٍ كثيفةٍ من المسلمينَ ظلَّتْ على مَدَى عقودٍ من الزمنِ ضحيةَ دويٍّ إعلاميٍّ ماكرٍ، وحديثٍ مبهرجٍ زائفٍ عن السلامِ مع العدوِّ، وحتميةِ الرضا بوجودِهِ، واستحالةِ مواجهتِهِ أو التصدِي له، أو إمكانِ تحقيقِ النصرِ عليه، وبعد أن تحققَ في منظورِ الرؤيةِ الشاملةِ ذلك التحولُ الكبيرُ في إعادةِ جوهرِ الصراعِ إلى حقيقته: أنَّه عُدوانٌ على الأمةِ الإسلاميةِ يستهدفُ دينَهَا وهويتَهَا وحضارتَهَا، كما يستهدفُ نهبَ أرضِهَا وخيراتِهَا وثرواتِهَا، وتطويعَ إنسانِهَا ليكونَ مسخًا مشوهًا يدورُ في فلكِ المنظومةِ الغربيةِ الأمريكيةِ الصهيونيةِ التَّي تسعَى إلى بسطِ سيطرتِهَا على عالمِنَا البئيس.. ثُمَّ تحققَ في هذه المواجهةِ المباركةِ عودةُ الإسلامِ ليكونَ القائدَ والمحركَ والفاعلَ الرئيسَ الذي يستوعبُ ما عداه من قُوى الأمةِ، ويتصالحُ معها في التصدِي لذلك المشروعِ الأمريكيِّ الصهيونيِّ بعدما ظلَّت هذه الأمةُ ترتجي الخير من العقائدِ السياسيةِ المستوردةِ والنظرياتِ الغريبةِ عنها، ثُمَّ لا تجده بعدَ طولِ رجاءِ وخيبةِ أملٍ إلا ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور: من الآية 39).

 

مخاطر..

لقد كانت الوحدةُ الوطنيةُ بين قُوى الشعبينِ الفلسطينيِّ واللبنانيِّ هي الدعامةَ الأُولى في صُنعِ ذلك الصمودِ المبهرِ، ووُجدَ المتخوِّفونَ من المقاومةِ الإسلاميةِ والمخدوعونَ بالعونِ الأمريكيِّ والصهيونيِّ، وبعضُهم ما زالَ للأسفِ يمتلكُ الجرأةَ على التعبيرِ عن مواقفِهِ وولاءاتِه، ويفتقدُ المشاعرَ الواجبةَ في هذهِ اللحظةِ التاريخيةِ كالتوارِي والخجلِ، أو مراجعةِ النفسِ وشجاعةِ الاعترافِ بالخطأ، إذْ أعلنَ هؤلاءِ في الفترةِ التي أعقبتْ انتصارَ المقاومةِ في لبنانَ عن ذاتِ المواقفِ دونَ الإفادةِ من دُروسِ المرحلةِ التي وعتْها الأمةُ بعدَ تضحياتٍ جسيمةٍ، وبعدَ مئاتِ الشهداءِ وآلافِ الجرحَى والمصابين وعشراتِ الألوفِ من النازحين والمهجرين، وهم بذلك يخسرون كثيرًا حين ينفصلون عن مشاعرِ جماهير أمتهم، وحالة تجددِ الوعي فيها.

 

وإنَّا لنرجُو ألا ينجحَ العدوُّ في تحزيبِ قوتِنَا وتفريقِ جمعِنَا والنَّيلِ من وحدتِنَا، فيحققُ بذلكَ بعضَ ما فشلَ في تحقيقِهِ بقوتِهِ العسكريةِ الباطشةِ، ونطمعُ أن يتعالَى الجميعُ في لبنانَ وفي فلسطينَ على مصالحِهِم الضيقةِ إلى الأفقِ الذي تنشدُهُ الأمةُ لهم من العزةِ والرفعةِ، ويتجهُوا إلى مداواةِ ما أصابهم من جراحِ القتالِ الشريفِ، ولأواءِ الجهادِ المباركِ وآثارِ العدوانِ الهمجيِّ الشرسِ، ويحتفظوا للمقاومةِ بسلاحِها إزاءَ عدوٍّ لا يُؤمَنُ غدْرُه، ولا يُقيمُ وزنًا لمعاهداتٍ دوليةٍ أو اتفاقاتٍ محليةٍ، وإنَّ ذاكرةَ الصراعِ معه لتحتفظَ بالكثيرِ من صورِ ذلك الغدرِ وانتهازِ الفرصِ ليحققَ أهدافَه بكلِّ سبيلٍ.

 

ذكرى تحريرِ القدس على يدِ صلاح الدين

في السابعِ والعشرين من رجب سنة 583هـ دخلَ صلاحُ الدين بيتَ المقدسِ بعدَ تحريرِها من أيدي الصليبيين، وعفَا عن أهلها، فلم يقتلْ منهم واحدًا، ولم يدُرْ في خلَدِ الفاتحِ العظيمِ أن يفعلَ بالغُزاةِ المستوطنينَ فيها مثلَ ما فعلَهُ أسلافُهُم بأهلِهَا المسلمينَ من مذابحَ مروِّعةٍ طالت عشراتِ الألوفِ من أهلِهَا حتَّى من لاذَ منْهُم بالمسجدِ الأقصى وقبةِ الصخرةِ المباركةِ، وكلُّ إناءٍ ينضحُ بما فيه، وكلُّ حضارةٍ تسعَى إلى التعبيرِ عن نفسِهَا.

 

إنَّ أوجهَ الشبهِ بين المشروعِ الصليبيِّ قديمًا والمشروعِ الأمريكيِّ الصهيونيِّ حديثًا أكثرُ من أن تُحصَى، ولا عجبَ فقد عبَّرَ الرئيسُ الأمريكيُّ بوش الابن يومَ أن غزا العراقَ عن بعضِ حلقاتِ عدوانِهِ على أُمَّتِنَا حين اعتبر الغزو حربًا صليبيةً"، وإنَّ سُبلَ المواجهةِ الناجحةِ لذلك المشروعِ- المواجهةُ التي تكفلُ النصرَ وتختصرُ الطريقَ- لم تبعُدْ كثيرًا عمَّا سنَّه لنا أسلافُنا الذين واجهوا النسخةَ القديمةَ منه.

 

نوعٌ متميزٌ من الزعماءِ والقادة

نحن في حاجةٍ إلى نوعٍ متميزٍ من القادةِ والحكامِ يدركونَ خُطورةَ الظرفِ التاريخيِّ الذي يواجهونَهُ، ويرتفعونَ إلى مستوى القدرةِ على الإنجازِ الذي تستشرفُهُ الأمةُ منهم، ولا تقبلُ غيره.

 

إنَّ قطاعاتٍ عريضةً من أمتنا اليومَ تنظرُ بإعجابٍ حقيقيٍّ إلى سلوكِ إخوانِنَا في الحكومةِ الفلسطينيةِ حين يقفونَ في خندقٍ واحدٍ مع شعبِهم في محنتِهِ، فلا يتقاضَى أعضاءُ الحكومةِ مرتباتِهم حتى ينالَ فقراءُ شعبِهم أُجورَهُم، ويختلطونَ برعيتِهم في مساجدِهم وبيوتِهم ومنتدياتِهم، ويلتحمونَ بهم دونَ تفرقةٍ أو استعلاءٍ، وينالُهم ما ينالُ سائر مقاتليهم من عنتٍ وأذى، فنجدُ قادتَهُم في مقدمةِ مَن يتعرضونَ للشهادةِ ويسعونَ إليها، ويعانونَ غياباتِ السجونِ وهم وزراء وأعضاء برلمان كما يُعانيه غيرُهم من المجاهدينَ، ويُلاقونَ من التعذيبِ ما يناله رجالُهم، ويقاسونَ آلامَ التخفي والتشريدِ، وتقاسِي معهم عائلاتُهم تمامًا مثل بقيةِ عائلاتِ مجاهدِيهم ورجالها.

 

وتلك بشائرُ النصرِ القادمِ بإذنِ الله، ذلك النصرُ الذي لا يصنعه القاعدونَ، ولا يقدرُ على تبعاتِه المتثاقلونَ والمنهزمونَ من دواخلِهم، واللاهثونَ وراء المتاعِ الزائلِ الرخيصِ.

 

كان نورُ الدينِ محمود- رحمه الله- يقول: "طالما تعرضتُ للشهادةِ فلم أُدركْها"، ولما جاءَه أخوه وقد أُصيبت إحدى عينيه في بعضِ المعارك فذهب نورُها قال له نور الدين: "لو كُشف لكَ عن الأجرِ الذي أُعدَّ لكَ لتمنيتَ ذهابَ الأخرى"!!

 

ولمَّا حاصرَ الصليبيونَ دمياطَ حرَّم نورُ الدين على نفسِهِ التبسمَ، فلمَّا عُوتب في ذلك قال: "إني لأستحيي من اللهِ أن يراني مبتسمًا والمسلمون محاصرون"، وهو الذي ملأه الأملُ في فتحِ بيتِ المقدسِ فماتَ قبل أنْ يُدركَه، ولكنَّه كان قد صنعَ المنبرَ الذي تمنَّى أن يخطب الجمعةَ من فوقِهِ في المسجدِ الأقصى، فلمَّا فُتِحَ المسجدُ الأسيرُ جَلَبَ صلاحُ الدين ذلكَ المنبرَ إليه فخطب من فوقِهِ الجمعة، وظلَّ به حتى أحرقه اليهود في مثلِ هذه الأيامِ من سنةِ 1969م ومعه أجزاء من المسجدِ المبارك بعد احتلالِ القدسِ في زمنِ التخاذلِ العربيِّ والترديِّ الإسلاميِّ.

 

أمَّا صلاحُ الدين فيصفُهُ قاضيه ابن شداد بقوله: "كان شديدَ المواظبةِ على الجهادِ، وشديدَ الاهتمامِ بِهِ، ولو حلفَ حالفٌ أنه ما أنفقَ بعد خروجِهِ إلى الجهادِ دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهادِ أو الإرفادِ لصدقَ وبرَّ في يمينه، حيث ما كان له حديثٌ إلا فيه، ولا نظرَ إلا في آلتِهِ، ولا كانَ له اهتمامٌ إلا برجالِهِ، ولا ميلٌ إلا إلى مَن يذكرُه ويحثُّ عليه، ولقد هجرَ في محبةِ الجهادِ في سبيلِ اللِّهِ أهلَهُ وأولادَهُ ووطنَهُ وسكنَهُ وسائرَ بلادِهُ، وقنع من الدنيا بالسكنِ في ظلِّ خيمةٍ تهبُّ بها الريح ميمنةً وميسرةً"، ولما ماتَ صلاحُ الدين- وقد ملك من العراقِ إلى مصرَ وبرقة ومن الشامِ إلى اليمن- لم يُوجد في خزانتِهِ إلا سبعة وأربعون درهمًا ودينارًا واحدًا.

 

فيا حكامنا هل عرفتم كيف يكونُ النصرُ وكيف يكونُ رجالُهُ؟؟ وهل تستطيعُ أبصارُكم الكليلةُ أن تتعافَى لترى صلاحَ الدين يعملُ بنفسِهِ لتحصينِ بيتِ المقدس بعد فتحِه، وينقلُ الحجارةَ اللازمةَ لذلك هو وأولادُه وأمراؤه وأجنادُه، ومعهم القضاةُ والعلماءُ والفقهاءُ؟؟

 

إعدادٌ سياسيٌّ وعسكري

لم يكن فتحُ صلاحِ الدين بيت المقدس وليدَ صدفةٍ عمياء أو ضربةِ حظٍّ عابرةٍ، بل كان نتيجةَ جهادٍ طويلٍ، وجهدٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ خارقٍ، لقد سَعَى الرجلُ على مدى ثلاثَ عشرةَ سنةً لتحقيقِ وحدةٍ إسلاميةٍ جامعةٍ، فكانَ جيشُه الذي انتصرَ بهِ في حطينَ يحوي عناصرَ مجاهدةً من العربِ والتركِ والأكرادِ وغيرهم، جمعها الإسلامُ بعدَ أن فرَّقتْهَا الأهواءُ، بل أرسلَ إلى سلطانِ الموحدين بالمغربِ يستنصره، ثم سَعَى صلاحُ الدين إلى تسليحِ ذلك الجيش بما استطاعَ من وسائلِ القوةِ العسكريةِ الضاربةِ، حتى إذا احتشدَ جيشُهُ في مقابلِ عدوِّهِ قال أحدُ قادتِهِم: "والله لقد رأيتُ عساكرَ الإسلامِ قديمًا وحديثًا فما رأيتُ مثل هذا العسكرِ الذي مع صلاح الدين كثرةً وقوةً".

 

فهل يدركُ حكامُنا اليومَ حتميةَ الوحدةِ؟ وهل يعي العربُ أن بقيةَ القُوى الإسلاميةِ هي رصيدٌ لهم ينبغي التواصلُ معَهُ وإيجادُ آلياتِ التنسيقِ والتحالفِ لا التباعدِ والتباغض؟ وهل يدركُ حكامُ المسلمينَ الذين يقودونَ أمةً تبلغُ مليارًا ونصفَ المليار من البشرِ أنَّ معركتَهُم الأولى هي تحريرُ أقطارِهِم من كلِّ سلطانٍ أجنبي؟ وأنَّ رضاءَهم بوجودِ الصهاينةِ والقواتِ والأمريكيةِ والغربيةِ على أرضِ بلادِهم هي خيانةٌ للدينِ والوطنِ؟ وأنَّ قصدَهُم الأكبرَ ينبغي أن يتجه إلى تحريرِ بيتِ المقدسِ وأرضِ الإسراءِ والمعراجِ؟!

 

إنَّ مما يُدمي القلبَ اليومَ تلكَ الانعزاليةُ القاتلةُ التي يريدونَ دفعَ الأمةِ إليها، وتلك الصراعاتُ الداخليةُ بين أقوامِنَا من عربٍ وأكرادٍ وفرسٍ وبربرَ، أو شيعةٍ وسُنّةٍ، أو مسلمين وغير مسلمين ممن يعيشون على أرضٍ واحدةٍ ويستهدفهم خطرٌ واحدٌ..﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾.