التاريخ : الخميس 21 ديسمبر 2006 . القسم : رسالة الأسبوع

نفحات الحج.. نستقوي بها على المحن


 

رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين..

 

في الوقت الذي تمر فيه أمتنا بلحظات فاصلة، ومراحل فارقة، وتزداد فيه المواجهات الشرسة، والضغوط المتصاعدة.. تهلُّ علينا نَسائم هذه الأيام الطيبات ونفحاتها المباركات أيام الحج الأكبر؛ لنستمد منها الزاد على الطريق، ونتلمَّس من خلالها قبساتٍ تضيء من حولنا ظلماتِ التخلُّف والتناحُر التي أصابت أمتنا، ولِتُجددَ في قلوبنا الإيمان بصحة المنهج وسلامة الطريق.

 

إننا في أشدِّ الحاجة إلى نفحات هذه الأيام المباركة، نستلهم منها الدروس، ونسترشد بها إلى الحق، ونستقوي بها على المحن والابتلاءات، ونتصبَّر بها على حملات التشويه، التي تريد أن تنال من دعوة أرادَ الله لها البقاءَ، وأراد أعداؤها لها التراجع والانزواء!!

 

ميثاق عالمي

ما أشدَّ حاجتَنا إلى هذه الأيام المباركة التي جاءت لتذكِّرَنا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقف في جموع من أمته في خطبة الوداع ليصيغَ للبشرية كلها ميثاقًا عالميًّا يضمن سعادتها في الدنيا والآخرة، وكأننا نستمع إليه- صلى الله عليه وسلم- يخاطبنا نحن في أيامنا هذه، ويخاطب البشرية الحائرة من حولنا: "أيها الناس.. إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا". 

إن الإخوان المسلمين وهم يدعون إلى حُرمة الاقتتال بين أبناء الأمة ويدعون إلى تصالح الحكومات والأنظمة مع شعوبها ويدعون إلى التعايش المشترك بين أبناء الأمة بكافة طوائفها وعلى اختلاف توجُّهاتها ويدعون إلى تفويت الفُرَص على أعدائنا.. إنما يستجيبون لهذه الدعوة النبوية الخالدة في خطبة الوداع والتي تؤزُّهم إلى طريق الوحدة والترابط، وتحثهم على الحب وتدفعهم إلى التفاهم.

 

ولهذا فإن الإخوان المسلمين لا يبرحون منهج التذكير بالوحدة والحرص عليها والتضحية من أجل أن تكون واقعًا على الأرض، وإن كلَّفهم هذا تضحياتٍ تلوَ تضحياتٍ وصبرًا على الأذى بالقول تارةً وبالفعل تارةً أخرى.

 

ما أشدَّ حاجة أمتنا للاستجابة لنداء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنحقن دماءنا وأموالَنا في العراق وفي فلسطين وفي لبنان وفي جميع بلداننا بدلاً من أن نستجيب إلى أعدائنا الذين يتربَّصون بنا الدوائر ويعيثون في الأرض الفساد، يفرِّقون الجموع، ويوغِرون الصدور، ويوقدون نار العداوة والبغضاء بين أبناء الأمة تحت دعاوَى (الفوضى الخلاَّقة) التي لا تَعنِي سوى أن يقتتل أبناءُ الوطن الواحد في صراع لا يجني ثمارَه سوى الأعداء.

 

ورغم وضوح هذا المنهج ونصاعة هذا التوجُّه لدى الإخوان المسلمين إلا أن نفرًا ممن يولُّون وجوههم جهة الأعداء ونفرًا ممن استعبدتهم مصالح الدنيا وشهوات السلطان يصرُّون على قلب الحقائق، ومخالفة الواقع المستقرّ، وتوجيه الاتهامات دون وجه حق.

 

عدل ومساواة

ومع خطبة الوداع نستلهم درسًا جديدًا مع نداء جديد: "يا أيها الناس.. إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسود، ولا لأسودَ على أحمر.. إلا بالتقوى.. كلكم لآدم، وآدم من تراب".

 

إنه نداءٌ يقضُّ مضاجع المستبدِّين، وترتعد منه فرائص المستكبرين، الذين ظنوا أنهم آلهةٌ أو أشباه آلهة، يستعلون على الخلق، ويفرِّقون بين بني البشر بتفضيل جنس على جنس، أو لغة على لغة، أو لون على لون، ويستبيحون بذلك دماء الشعوب، ويستنزفون أموالهم، وينهَبون ثرواتِهم، ويغتصبون بيوتَهم، ويحتلون بلادَهم، وهو مع ذلك نداءٌ يبعث لدى المستضعَفين الطمأنينةَ، ويبعث لدى البشرية السكينةَ، فهناك دين ينصرُ الضعفاءَ، ويردُّ الحقَّ لأهله، ويساوي بين البشر.. كبيرهم وصغيرهم.. أبيضهم وأسودهم.. عربيِّهم وأعجميِّهم.. ليس هناك فضلٌ لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى والعمل الصالح.

 

إنه نداءٌ ينقض عُرَى الطغيان العالمي الذي تتولَّى كبْرَه الإدارةُ الأمريكيةُ، ويقف حجَرَ عثرة أمام امبراطورية أرادوا أن يبنُوها على أنقاض البشر، ومن أموال الشعوب المغلوبة على أمرها، فهل تقدِّر البشرية لهذا الدين العظيم قدْرَه، وتضعه في موضعه، وتستلهم قبسًا من نوره، وتستجيب لنداء الرسول الكريم، الذي حمل رايته صابرًا محتسبًا حتى أتاه اليقين؟!

 

تأملات في مناسك الحج

في هذه الأيام المباركات يتوجه الحجيج إلى بيت الله الحرام، يخلعون ملابسهم التي اعتادوا عليها، ويرتدون ملابس الإحرام؛ حتى ينخلعوا من الدنيا التي اعتادوا عليها، ويدخلوا في رحاب الله، بعيدًا عن مغريات الدنيا وزخرفها ومتاعها الزائل، ويطبِّقوا نداءَ النبي- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر.. إلا بالتقوى" فالجميع يلبسون زيًّا واحدًا، ويتجهون إلى ربٍّ واحدٍ، ويطوفون حول بيت واحد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.. نداء يجتمع عليه الحجيج وتلهج به ألسنتهم؛ ليعلنوا الاستجابة لنداء الله تعالى، وليتحوَّل هذا النداءُ إلى منهج حياة للفرد والأمة كلها.

 

إنها استجابةٌ لنداء أبينا إبراهيم ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج: 27).. إنه درس الاستجابة المطلقة لنداء الله تعالى ولأوامره ومنهجه، ذلك الدرس الذي نتعلمه من سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، عندما استجاب لأمر ربه وتركَ زوجَه وابنَه في وادٍ غير ذي زرع ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37).

 

إنه درسُ الاستجابة لأمر الله تعالى وإن كان شاقًّا على النفس، ذلك الدرس الذي بلغ فيه الخليل إبراهيم مبلغًا استحقَّ أن يسطِّرَه القرآنُ آياتٍ بيناتٍ تُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الصافات:103- 105)، بل وإنها الاستجابة من الابن الذي عرف قدْرَ ربه وامتثل لأمره ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: من الآية 102).

 

نداء إلى الأمة

فيا أمة الإسلام.. إن هذا المؤتمر السنوي الذي فرضه الله تعالى على الأمة يدفعُها إلى التأكيد على معاني الوحدة والترابط، والاعتصام بحبل الله المتين ومنهجه الرشيد ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103).

 

يدفعنا إلى الوحدة من أجل مواجهة الأعاصير التي تكاد تعصف بأمتنا، ولا مناص أمامنا سوى الوحدة والترابط والاعتصام بحبل الله المتين ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92) ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52).

 

أما أنتم أيها الإخوان المسلمون.. فعليكم أن تبشِّروا العالمَ الحائرَ من حولكم بهذا الدين العظيم الذي يحمل الخيرَ للبشرية كلها، ويساوي بين الجميع، ويرحم الضعفاء، ويأخذ بأيديهم إلى فسحات العدل والحرية والمساواة المطلقة، ويقف معهم أمام الطغيان والاستبداد بكافة صوره وأشكاله.

 

عليكم أيها الإخوان أن تكونوا أول من يستجيب لنداء الحق، كما فعل أبوكم إبراهيم من قبل، فتلتمسوا رضا الله تعالى، وتصبروا على الأذى الذي يصيبكم، فالواجبات عليكم كثيرة، والأعباء عليكم ثقيلة، فاستعينوا بالله واصبروا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:200).

 

وصلَّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين.