التاريخ : الخميس 01 فبراير 2007 . القسم : رسالة الأسبوع
إنما الأمم الأخلاق
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن المتأمل في واقع العالم الآن لا بد أن تستوليَ عليه الدهشة والحيرة ويتملَّكَه الأسى والحزن، لما يرى من شرور ومفاسد وصراعات ومظالم، تدفع إليها الضغائن والأحقاد، أو المطامع والأهواء، أو الرغبة في التسلُّط والاستعلاء.
أصل الداء
يقف العقلاء والحكماء أمام هذا الواقع المضطَّرب ليحلِّلوا أسبابَه أو يشخِّصوا داءَه، فيصلون في كثير من الأحيان إلى الأسباب المباشرة (وهي ظاهرية سطحية غالبًا) فإذا مدَّ المرءُ بصرَه وعمَّق فكرَه فإنه سيقع على أصل الداء وأساس البلاء المتمثِّل في "أزمة الأخلاق"، ومن ثم فينبغي أن يبدأ منها العلاج.
الأخلاق الإنسانية والإسلامية
إن البشر قد يختلفون في الجنس والعِرق واللَّون والثقافة واللغة والعقيدة، ولكنهم يتفقون على القيم الخلقية، فالتصرفات والتعاملات التي تنمُّ عن الصدق والصراحة أو الكرم والجود أو الأمانة والعدل، أو الرحمة والرأفة أو الشهامة والمروءة أو الشجاعة والإقدام أو الحلم والأناة.. إلخ، هذه كلها تُثِير- بلا شكٍّ- في نفوس مَن يشاهدها أو يسمعُ عنها الإعجابَ بها والتقديرَ والاحترامَ لأصحابها، وهكذا يكون الحال مع سائر "الأخلاق الإنسانية".
فإذا نظرنا إلى الأخلاق بمنظار الإسلام "الأخلاق الإسلامية" وجدناها أوسعَ مدى وأعمقَ غورًا؛ حيث يتميَّز الإسلام بجملة أخلاق خاصة به ولا تُعرَفُ في غيره، كالإخلاص والورع والتوكل والخشوع والخشية، وما ذاك إلا لأن مثل هذه الأخلاق تنبُع من الإيمان الحق بالله تعالى وتوحيده.
وهذا الإيمان كذلك يزيد الأخلاق الإنسانية عمقًا ورسوخًا في الفرد المسلم؛ لأنه إنما يتحلى بها ابتغاءَ وجه الله وطمعًا في مثوبته ورضاه، فلا يتساهل فيها، ولا يتنازل عنها، مهما طال الزمن، ومهما كان الإغراء أو الابتلاء، أما من حُرِمَ هذا الإيمان فإنه يتمسك بالخلق طالما يجني من ورائه ما هو أهمُّ منه في نظره كَكَسْبِ المال أو الشهرة أو الاحترام، فإذا لم يتحقق هذا فإنه لا يتورَّع عن التفريط فيه أو حتى التنكُّر له، وهكذا يظهر الارتباط الوثيق بين الإيمان والأخلاق، وهو ما يؤكده قوله- صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا".
مكانة الأخلاق في ديننا
للأخلاق في ديننا مكانتُها الخاصة ومنزلتُها الرفيعة، لدرجة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قصر الهدف من رسالة الإسلام على تتميم مكارم الأخلاق في واقع الناس وسلوكهم.. وهذا مدلول قوله- صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهذا حقٌّ وصدقٌ؛ حيث نلاحظ دائمًا أن الهدفَ الخلقيَّ والسلوكيَّ هو المبتغَى من وراء التكليف بالعبادة في إجمالها وفي تفصيلها، فعلى سبيل الإجمال نقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 21)، وعلى سبيل التفصيل نقرأ قوله تعالى في شأن الصلاة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت: من الآية 45) وفي شأن الصيام ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183) وفي شأن الزكاة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 103)، فلا عجب إذًا أن يعتبر سلفنا الصالح الدينَ هو الخلُق، وهذا ما عبر عنه ابن القيم- رحمه الله- بقوله: "الدين الخلُق، فمن زاد عنك في الخلق زاد عنك في الدين، ومن نقص عنك في الخلق نقص عنك في الدين".
فضل حسن الخلق على الفرد
لما كان للخُلق الحَسَن هذا القدرُ الذي عرفناه، فقد رتَّب الإسلام عليه فضلاً عظيمًا ووعد عليه أجرًا كبيرًا:
* فبه يفوز المرء بحبِّ ربه عز وجل، وهذا ما قرَّره- صلى الله عليه وسلم- حين سئل: "ما أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقًا" ثم يجني الفرد حبَّ الناس تبعًا لحبِّ الله له، وهذا ما أشار إليه- صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريلَ إني أحبُّ فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبولُ في الأرض".
* وبه يثقل ميزان العبد يوم القيامة، اقرأوا قوله- صلى الله عليه وسلم-: "ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من خلق حسن" فإذا وُضع في الميزان حسن الخلق مع عبادة خفيفة وعمل قليل رجحت الكفة ونجا العبد.. ألم ترَوا إلى المرأة التي ذُكرت عند النبي- صلى الله عليه وسلم- وهي تُعرف من قلة صلاتها وصيامها وأنها تتصدَّق بالأنمار من الأقط، ولكنها لا تؤذي جيرانها، فقال- صلى الله عليه وسلم-: "هي في الجنة"، وإذا وُضع في الميزان سوء الخلق مع كثرة العبادة وزيادة العمل طاشت الكفة وهلك العبد، وقد كان هذا هو مصيرَ المرأة التي تُعرف من كثرة صلاتها وصيامها وصدَقتها ولكنها تؤذي جيرانها، فقال عنها النبي- صلى الله عليه وسلم-:"هي في النار".
فضل حسن الخلق على الجماعة
قرَّر الإسلام أن بناءَ الأمم وبقاءَها وازدهارَ حضارتها ودوامَ منعتها إنما يُكفَل لها ما بقيت الأخلاقُ فيها، فإذا سقطت الأخلاق سقطت الأمة، وما أحكمَ قول شوقي:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ماذا نتوقع لأمة سادت فيها قيمُ العدل والمساواة والحرية، وتعامل أبناؤها فيما بينهم بقِيَم التآخي والتراحم والتعاون؟! إنها- بلا شكٍّ- أمةٌ قويةٌ ناهضةٌ مستقرةٌ آمنةٌ، والعكس صحيح، وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المعنى بقوله- رحمه الله-: "إن الله يُقيم الدولةَ العادلةَ وإن كانت كافرةً، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمةً".
عندما تحكم الأخلاق
لقد قدم التاريخ نماذجَ رائعةً وسجَّل مواقفَ مدهشةً حين قامت دولة الإسلام الأخلاقية:
اسمعوا ما كان يوصي به النبي- صلى الله عليه وسلم- جندَ الحقِّ المجاهدين في سبيل الله، ألا يتبعوا فارًّا من الميدان، وألا يُجهِزوا على جريحٍ، وألا يَقتلوا امرأةً ولا طفلاً ولا شيخًا، وألا يتعرَّضوا لراهب في صومعته، وألا يقطعوا شجرةً.. الله أكبر ما هذا الخلُقُ الرفيعُ؟ وما هذا الأفق السامي الوضيء؟!
واذكروا ما فعل الفاتحون المسلمون في الشام عندما أوشك الروم أن يغلبوهم على تلك الديار؟ لقد ردُّوا لأهل تلك البلاد من النصارى أموالَهم لأنهم أخذوها مقابل الدفاع عنهم وحمايتهم، فانبهر الناس بهذا الخلق وقالوا "والله لَعَدْلُكم أحبُّ إلينا من جَورهم" وقاموا معهم في مواجهة الروم حتى دحروهم وردُّوهم على أعقابهم خاسرين.
واستحضروا موقف عمرو بن العاص- رضي الله عنه- مع أرمانوسة ابنة المقوقس حاكم مصر؛ إذ وقعت في أَسْر المسلمين وقد أرسلها أبوها لتُزَفَّ إلى قسطنطين بن هرقل، فإذا بعمرو- رضي الله عنه- يطلق سراحَها ويكرمَها ويردُّها بكل ما معها إلى المقوقس في حراسةٍ من جند الله على رأسهم قيس بن أبي العاص السهمي.
وانظروا إلى صلاح الدين وهو يُرسل طبيبَه الخاصّ ليعالج قائدَ الصليبيين ريتشارد قلب الأسد، ولم يفُتْهُ أيضًا أن يرسل إليه العلاج والهدايا..
هل عرفت الدنيا في طول تاريخها وعرضه شيئًا مثل هذا..؟! إنه الإسلامُ العظيمُ بقِيَمه وحضارته وإنسانيته ورحمته.
عندما تضيع الأخلاق
رأينا ما للأخلاق من آثارٍ عظيمةٍ وثمارٍ طيبةٍ حين تحكُم واقعَ الناس وتوجِّه سلوكَهم، فإذا ما ضاعت الأخلاق استطار الشرُّ وظهر الفساد في شتى مجالات الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية وغيرها.
ففي السياسة.. نرى رئيس أقوى دولة وأغناها يطلُّ على العالم بكذبه وافترائه وتضليله، وكذلك وزير خارجيته، ليبرِّر الحرب الإجرامية الوحشية في العراق بمبرِّرات مفتعَلة ومتقلِّبة، بدءًا من حيازة أسلحة الدمار الشامل، فالارتباط بالإرهاب والقاعدة، فالإطاحة بنظام الطاغي المستبدّ وتحرير الشعب العراقي من بطشه وظلمه، ثم يذهب ضحيةَ هذه الحرب أكثر من ثلثي مليون فرد، بين امرأة، وطفل، وشاب، وشيخ، ويُزَجُّ بالآلاف في السجون ليتعرَّضوا لأخسِّ ألوان التعذيب والامتهان، وتُنْهَبُ الخيراتُ من نفط ومال، وتتعرَّضُ الحرائر الكريمات لهَتْكِ عرضهن، وتُسعَّر نيران الفتنة المذهبية ليُفنيَ الشعب بعضه بعضًا، وتدمَّر كلُّ مقومات الحياة من محطات للمياه والكهرباء ومن طرق وجسور وجامعات ومؤسسات، بل لم تسلم كذلك مظاهر التراث والحضارة من متاحف ومعارض وآثار.
ونرى عربدةَ هذا الكيان العنصري الصهيوني في أرض الرباط والمقدَّسات "فلسطين" من قتلٍ واغتيالٍ، وسجنٍ وتعذيبٍ، ونفيٍ وتشريدٍ، وحصارٍ وتجويعٍ، واقتحامٍ وترويعٍ، وهدمٍ للبيوت وتجريفٍ للزروع، وتوسعٍ واستيطانٍ، وخنقٍ بالجدار.
ونرى بعض الحكَّام قد استكبروا في الأرض بغير الحق وعتَوا عتوًّا كبيرًا، وتسلَّطوا على شعوبهم ينتهكون حرمة البيوت ويروّعون الآمنين، ويصادرون الممتلكات ويلقون بالشرفاء والصُلَحَاء في غياهب السجون ويلفِّقون الاتهامات ويرِّوجون الترَّهات ويكمِّمون الأفواه، متنكِّرين في ذلك كله لوعودهم بالإصلاح، مستمرِّين في طريق الفساد والاستبداد.
وفي الإعلام.. نرى كثيرًا من المنتمين زورًا وبهتانًا إلى ساحته (المقروءة والمرئية والمسموعة)، وقد مردوا على النفاق يبيعون دينهم بدُنيا غيرهم، رضُوا لأنفسهم أن يكونوا أبواقًا منكرةً تسارع في هوى الظالمين تردِّد الأكاذيبَ والافتراءات، وتلصق بالشرفاء الاتهامات، وتُثير حولهم غبار الشبهات، وهم في هذا كله قد أعمَتْهُم الأهواء الشخصية والمنافع المادية عن اعتبارات الصدق والأمانة والدقة والموضوعية، أو حتى شرف الممارسة المهنية، وغاب عن هؤلاء وهم ساهون في غمرتهم هذه الإحاطة الملائكية وهذه المراقبة الإلهية الواردة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ* إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 16-18) وذهل هؤلاء أيضًا وهم سادرون في غيِّهم عن قوله- صلى الله عليه وسلم-: ".. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" وقوله- صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفًا في النار".
فيا أيها الناس أجمعون.. ثوبوا إلى رُشدكم، والتزموا بأخلاقكم، تنصلح أحوالكم، وتسعد حياتكم..
ويا أيها الإخوان المسلمون.. ليتذكر كلٌّ منكم أن الخلُق الحَسَن المتين هو من أهم المقوِّمات العشرة للشخصية المسلمة الصادقة التي ننشدها، وهو- أيضًا- من أهم المظاهر الخمسة التي تجمع للفرد أمرَ دعوته، فاحرِصوا كلَّ الحرص على التحلِّي به لتكونوا ألسنةَ صدقٍ لمنهجكم وقدوةً صالحةً لغيركم.
والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى صراط مستقيم..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القاهرة في: 13 من المحرم 1428هـ= الموافق 1 من فبراير 2007م.