التاريخ : الخميس 22 فبراير 2007 . القسم : رسالة الأسبوع

بين الحاضر والمستقبل


 

رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه..

إن ثقتَنا في الله عز وجلَّ وتصديقَنا بوعده يعظم آمالنا في الخروج بأمتنا من واقعها المؤلم إلى مستقبل مشرق.. إن الناظر إلى حاضر الأمة الإسلامية اليوم يرَى حرائقَ مشتعلةً في أكثر من بلد، ودماءً تُراق، وأرواحًا تزهق، وثرواتٍ تُهدَر في أكثر من مكان، فتتمزَّق نفسه ألمًا على واقعِ المسلمين وتفرُّقِهم واستسلامِ حكَّامهم لأعداء أمتهم، وعدم قدرتهم على لململة شتاتهم لوقف هذا التدهور وصدّ هذا العدوان.

 

لكنَّ المتأمل بعُمق في ما وراء الأحداث يستشرف مستقبلاً أفضل وغدًا أكثرَ أملاً في الخروج من هذا الواقع المرير، فالشعوب لم تستسلم، والمقاومة لم تنقطع، والعدوُّ لم يصل إلى أهدافه أبدًا، بل يغرق في مستنقعٍ بعد آخر، والجراح أثخنته، والضغوطُ تتزايد عليه من داخل بلاده للهروب من المعارك الفاشلة والمغامرات الحمقاء.

 

إن الصراع بين الحق والباطل قديمٌ جدًّا، وإن بلادَنا تعيش منذ عدة عقود- تصل إلى أكثر من قرن من الزمان- صراعًا بين مشروعين:

* مشروع وافد، يبغي الهيمنة والسيطرة على بلادنا وثرواتنا، ويهدف إلى مسخ عقيدتنا، وإفساد أخلاقنا، وتشويه حضارتنا.

 

* ومشروع مناهض، يعمل من أجل الاستقلال، والتحرر من التبعية، ويقاوم بكل وسائل المقاومة والممانعة؛ للحفاظ على مصالح البلاد والعباد؛ من أجل الإبقاء على عقيدة هذه الأمة وتجديد حضارتها.

 

لقد تسلَّمت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة مشروع الهيمنة والسيطرة على العالم، وها هي اليوم تستخدم استراتيجيةً واضحةً في الحروب الاستباقية باسم مكافحة الإرهاب والفوضى الخلاَّقة؛ لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة العربية والإسلامية، وذلك بعد فشل مشروعيَها في بناء ما سمَّته الشرق الأوسط الكبير ثم الشرق الأوسط الجديد.

 

إن السياسة الأمريكية بالهروب إلى الأمام وحشْد وتهيئة المنطقة لشنِّ حرب جديدة بدقِّ طبول الحرب على إيران.. لن تؤديَ إلا إلى مزيدٍ من المشكلات لأمريكا وحلفائها في أوروبا وفي المنطقة العربية.

 

لقد انكسرت آلةُ الحرب الأمريكية الجبَّارة على الصخرة الصلبة للمقاومة العراقية العنيدة، وفشلت مشاريعها السياسية لبناء نظام موالٍ لها في العراق يقوم على المحاصصة الطائفية، وتفاقَم المأزقُ الأمريكي في العراق بعد أن غرقت قواتُها في أوحال الاحتلال، كما فشلت قوات حلف الأطلنطي من قبل في أفغانستان.

 

وانهزمت أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهَر للمرة الثانية في جنوب لبنان، بعد أن كاد النسيان يطوي حرب رمضان المجيدة، التي ضاعت ثمارها في دهاليز السياسة، وفشل مشروع الفتنة في لبنان حتى الآن، وتعثَّرت محاولاتُ إجهاض الحكومة الفلسطينية الشرعية، التي جاءت عبر صناديق الانتخابات الحرة النزيهة، ونجحت جهودُ العاهل السعودي في إخماد نار الفتنة التي أشعلها المتواطئون مع المشروع الصهيوني الأمريكي للالتفاف على إرادة الشعب الفلسطيني.

 

ومع كل نسيم للحرية وفي كل انتخابات حرة تُثبت الشعوب العربية والإسلامية انحيازَها الصريحَ وتأييدَها الواضحَ للمشروعِ الإسلامي الحضاري، مشروع المقاومة، ومشروع الاستقلال والتحرر، ومشروع الازدهار والتقدم.

 

ذلك التأييد هو التعبير الحقيقي عن الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، فطرة التوحيد والإيمان، رغم كل محاولات التشويه، ورغم كل ما يتعرَّض له الدعاةُ من تضييقٍ وعدوانٍ.
إن البشرية كلها تتطلع إلى قُطْب جديد يواجه قُطْب الهيمنة والعدوان، قطبٍ يحقق العدل والإنصاف بدلاً من الليبرالية المتوحشّة، قطبٍ يحقق التعايش السلمي والتعاون على خير الإنسانية بدلاً من فرض الثقافة الأحادية والمصالح الغربية باسم العولمة والإنسانية.

 

إننا على ثقة بوعد الله تعالى للمؤمنين العاملين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (النور: من الآية 55)، ونحن ننتظر نصرَه للمجاهدين ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ (غافر: 51) ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: من الآية 40).

 

ولكننا في نفس الوقت نعلم أن الله عز وجل لا يهب نصرَه للقاعدين أو المتقاعسين أو المتخاذلين، وندرك أيضًا أن الله عز وجل رسَم لنا طريق النصر وأوضح لنا سُنَنَه، وأننا ما وصلنا إلى هذا الواقع المرير إلا عندما حقَّت علينا سُننُ الهزيمة، ولن نخرج من هذا الواقع إلى المستقبل المشرق إلا إذا تمسَّكنا بعوامل النصر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45-46).. صبرٌ وثباتٌ، وذكرٌ لله وطاعةٌ لرسوله، ووحدةٌ وائتلاف.. هذه عوامل النصر والفلاح.. أما اليأس والقنوط والزَّهو والغرور والفُرقة والاختلاف، فهذه عوامل الهزيمة والانكسار.

 

إن الغرب اليوم بقيادة أمريكا يتخبَّط في سياسات العدوان والتجبُّر، وإن الأزمات التي تواجه مخططاته لا تُخطئها العين، خاصةً تلك التي تتعلق بالخواء الروحي، والتفسُّخ الاجتماعي، والانحلال الخلقي.

 

لكن سنن الله لا تتخلَّف، فلن يتسلَّم المسلمون قيادةَ الدنيا من جديد إلا إذا كانوا جديرين بتلك القيادة، وقدموا نموذجًا حضاريًّا قادرًا على العطاء في كل المجالات، كما فعلوا من قبل في تاريخهم الوسيط.. نموذجًا يمزجُ بين الروح والمادة.. بين المثالية والواقعية.. بين الفرد والمجتمع.. بين القوم والعالم.. بين الحرية والالتزام.. بين الإبداع والمسئولية.

 

وإن كان ذلك لن يتحقق في الأمد القريب فإن علينا أن نواصل جهادَنا لتحقيقه، بتحرير إرادتنا، واستقلال بلادنا، وتنمية ثرواتنا، بالأمل والعمل، بالجهاد والتضحية، بالبذل والعطاء، بالصبر والثبات.

 

إن منحنى الحضارة الغربية في هبوط بعد أن وصل إلى قمة الإنجازات، ومنحنى البناء الحضاري الإسلامي في صعودٍ بعد أن نجح في الثبات والمقاومة، ولن نيأس أبدًا، فليس اليأس من أخلاق الرجال.

 

أيها الإخوان.. أيها المسلمون.. أيها الناس..

ادرسوا حاضِرَكم، وتعلموا الدروس، واستفيدوا من الأخطاء، وتجنَّبوا العثرات، واعملوا، وواصِلوا الليل بالنهار، واصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.

 

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.