التاريخ : الخميس 07 يونيو 2007 . القسم : رسالة الأسبوع
سنن النصر والهزيمة
رسالة من: محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فكلما عاد شهر يونيو (حزيران) من كل عام حَمَلَ إلينا الذكرياتِ المريرةَ والمآسي الحزينةَ لتلك الهزيمةِ الثقيلةِ التي جلَّلتنا بالعارِ والانكسارِ، ولا نريدُ في هذه المناسبة أن ننبشَ القبورَ، ولا ننصبَ المحاكماتِ، ولا نكيلَ الاتهاماتِ، ولا نجلدَ الذات، إنما نريدُ فحسب أن نخرجَ بالدروس والعظات؛ لنستفيدَ منها في إصلاحِ مسارنا والنهوضِ بواقعنا.
لا يختلف الدارسون المدققون ولا العقلاء المنصفون حول أسباب هذه الكارثة التي حلَّت بالأمة وما زلنا نتجرَّع مرارتَها ونعاني آثارها حتى الآن، وأهمها:
* حكم الفرد بالديكتاتورية والاستبداد وغياب الديمقراطية.
* توحش أجهزة الأمن القمعية؛ حيث أطلق لها العنان؛ لتصادر الحريات، وتكمّم الأفواه، وتشيع في الناس ثقافة الخوف والرعب من جهة، والجبن والتخاذل من جهة أخرى، فازدادت الهُوَّة بين النظام والشعب اتساعًا وتعمقًا.
* المبالغة في تهويل الذات والتهوين من شأن العدو، وعدم الإدراك الحقيقي لقوته، والقابلية للتورط والانخداع.
* غياب الرؤية العلمية والتخطيط الإستراتيجي، وانتهاج سياسة ردود الأفعال؛ حيث تتخذ القرارات المصيرية بطريقة عشوائية ارتجالية.
* إهمال إعداد القوات المسلَّحة (تعبئةً وتسليحًا وتدريبًا)، واختيار قياداتها على أساس الولاء لا الكفاءات، وانشغال هذه القيادات بعالمها الخاص، بعيدًا عن أجواء الجدية والمسئولية التي تفرضها ظروف الصراع والمواجهة.
* وهن الكيان العربي وعجزه بسبب الفرقة والتشرذم وتباين الولاءات والتبعيات.
* الغفلة عن تضاريس الساحة الدولية، وصراعات القوى الكبرى وألاعيبها، والقعود عن محاولات توفير الغطاء لموقفنا أو كسب الدعم لقضيتنا.
* إعلان الحرب الضروس على الدعاة والمصلحين، وخاصةً الإخوان المسلمين؛ حيث تعرضوا للملاحقة والترويع، والاعتقال والتعذيب، والمحاكمات الهزلية، وأُزهقت الأرواح الطاهرة البريئة على أعواد المشانق تارةً وبالتصفية الجسدية تارةً أخرى.
إن من يتأمل هذه الأسباب المذكورة يجد أن معظمها- إن لم تكن كلها- ما زالت قائمةً للأسف الشديد، وهنا نقول للحكماء والعقلاء والشرفاء من أصحاب العقول الراجحة والضمائر الحية والغيورة الوطنية في هذا البلد: أما آن الأوان للنهوض وتضافُر الجهود حتى نتعافَى من هذا البلاء ونبرأَ من هذه الأدواء؟ وإلى متى يستمر هذا الحال الذي يعرِّضنا لمزيدٍ من التراجع والتخلف والهزيمة؟!
ولعل من الخير- ونحن نحاول الاستفادة من دروس النكسة- أن نذكِّر الأمة في عمومها بسنن الله في النصر والهزيمة لتقف على هذه السنن وتُسايرها وتستفيد منها لتحقق النصر في معاركها- وما أكثرها!! وما أشرسها!!- وتتقي الهزيمة، فلم تعُد الأمة تحتمل مزيدًا منها بعد ما ذاقته في كثير من الساحات وعلى كثير من المستويات.
فما هي السنة؟
إنها قانونٌ إلهيٌّ كونيٌّ ماضٍ، تترتب بمقتضاه المسببات على الأسباب، وهذا القانون ثابتٌ لا يتبدَّل ولا يتغير ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: من الآية 62)، ومِن ثم فعلى كلِّ مَن يسعى لتحقيق هدف ما أن يأخذ بالأسباب الصحيحة المؤدية إليه وفق السنة الإلهية التي تحكمه.
فما هي أسباب النصر؟!
لا شك أن أسباب النصر تتعدد وتتنوع، فمنها ما يكون من قبيل الإعداد المستمر للأفراد والمجتمعات قبل المواجهة المباشرة مع الأعداء في الميدان، ومنها ما تتطلبه المواجهة المباشرة في الميدان، ولا يخفى أن النوع الأول هو الأهم؛ حيث يحتاج توفيره إلى جهد شاقّ، وعمل دؤوب، ووقت طويل، وعلى أساسه أيضًا يمكن أن نتوقع الحال عند المواجهة المباشرة، فمن وسائل الإعداد المستمر:
- أن نربي الأفراد تربيةً إيمانيةً
تدبَّروا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: من الآية 111) والآية الكريمة تتحدث عن القتال في الميدان، ثم تكون الآية التالية مباشرةً ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِين﴾ (التوبة: 112) وهذه صفات تفصيلية لهؤلاء الجند الذين يقاتلون في سبيل الله، ونلاحظ أن هذه الصفات كلها قد جاءت بصيغة اسم الفاعل الدالة على الثبوت والتمكن، وكأن هذه الصفات هي بمثابة الشروط المسبقة للثبات في الميدان وحسن البلاء، وعلى ذلك فيُعتبر السعي لغرس هذه الصفات في الأفراد- بالتربية الصحيحة والتكوين الدقيق- من أسباب النصر التي تسبق شهود المعركة.
وجدير بالملاحظة كذلك أن هذا المقطع القرآني يتحدث عن أفراد موصوفين بالإيمان، فبدأ بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وختم بقوله تعالى ﴿وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وذلك أن الإيمان هو من أهم أسباب النصر الذي ننشده، وقد تكرر مرارًا في القرآن ذكر ارتباط النصر بالإيمان، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر) وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: من الآية 47) ولا عجب فإن الإيمان يُثمر ثبات القلب، ورباطة الجأش، والاستخفاف بالموت، واليقين في وعد الله بالتأييد والنصر في الدنيا، وبالمثوبة والرضوان في الآخرة.
إن هذا الإيمان هو الذي جعل عمير بن الحمام- رضي الله عنه- يستبطئ البقاء في الدنيا عندما أخرج تمراتٍ من قرنه فجعل يأكل منهن، وذلك حين ندبهم النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى القتال في بدر بقوله "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"، فألقى عمير بتمراته وألقى بنفسه بين الصفوف والسيوف حتى نال الشهادة.
- وأن نكون أنصارًا لله
وذلك بالإيمان بأن منهجَه حق، وأن فيه صلاحَ البشر وسعادتَهم، ثم الاستقامة عليه، والاعتزاز به، والجهاد في سبيل التمكين له، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾ (محمد) وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ﴾ (الصف: من الآية 14) فمَن امتثل لأمره وقام بنصره تحقَّق فيه وعده المذكور بعد ذلك: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين﴾ (الصف: من الآية 14).
ولا شك أن تطبيق مبادئ الإسلام في واقعنا هو من أهم صور نصرنا لله ولمنهجه، ومن ثم فهو من أسباب النصر، ومن هذه المبادئ الحرية والعدل والشورى.. اسمعوا ما قاله ربعي بن عامر- رضي الله عنه- لرستم موجِزًا مهمة الأمة: "لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، فكان تبنِّي هذه المبادئ ومناصرتها سببًا في الانتصار على الفرس وهم أصحاب الملك العريض والحضارة العريقة.
وانظروا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر، حين استشار أصحابه قبل المعركة بفئاتهم المختلفة (المهاجرين والأنصار بأوسهم وخزرجهم)، فحضَّ- صلى الله عليه وسلم- بذلك القلوب مع العزائم على الأمر الذي أراد، وانظروا إليه- أيضًا- وهو يمكِّن سواد بن غزية ليقتصَّ منه عندما زعم سواد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أوجعه حين غمزه بمحجنه وهو يسوِّي الصفوف، يا سبحان الله!! أتصل إقامة العدل في فهم المسلمين إلى هذا الحد، فلا عجب إذًا أن تنتصر القلة المؤمنة بمثل هذه المبادئ على الكثرة الكافرة التي حرمت منها.
ومن عدة المواجهة في الميدان ومتطلباتها
ما جاء في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)﴾ (الأنفال).
وهذا بيان لعدة المواجهة ومقومات النصر فيها:
الثبات: فمعلوم أن الفئة التي تحضر إلى الميدان إنما تمثل ما تحمله من منهج حق بقيمه ومبادئه وتصوراته، فلا يليق بحال من الأحوال أن تسقط الراية التي تحملها تلك الفئة، أو حتى تهتزّ، ومن ثم نفهم موقف الاستبسال المدهش الذي أبداه جعفر بن أبي طالب حين احتضن الراية بعضديه بعد أن قُطعت كلتا يديه، وذلك حتى تظلَّ الراية مرفوعةً وما ترمز إليه، ومن ثم كذلك نفهم هذا الوعيد الأكيد والتهديد الشديد لمن يولِّي العدو دبرَه فرارًا من الساحة ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) ﴾ (الأنفال: 16).
ذكر الله كثيرًا: فبه تطمئن القلوب وتسكن ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: من الآية 28) وبه تتنزَّل معية الله تعالى على العباد بالعون والتأييد "أنا مع عبدي إذا ذكرني".
طاعة الله ورسوله: وهذا مطلب عام ودائم، سواءٌ كان في المعركة أو قبلها أو بعدها، ويعني الاستقامة على طريق الإيمان وما يتبعه من مقتضيات وما ينمُّ عنه من صفات، وقد نبَّه الفاروق عمر- رضي الله عنه- المجاهدين إلى هذا العامل المهم من عوامل النصر بقوله: "إنكم لا تنتصرون على عدوِّكم بكثرة عددكم، ولكنكم تَنتصرون عليه بطاعتكم لله ومعصيتهم له".
ترك التنازع وجمع الكلمة وتوحيد الصف: فالتنازع يُفضي إلى ضياع القوة وذهاب الريح، ويترتب على ذلك الإخفاق في تحقيق الأهداف، ومن دقائق التعبير القرآني هنا أن قدم ضياع الغاية ﴿فَتَفْشَلُوا﴾ على ضياع الوسيلة ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ليكون ذلك أبلغ في التحذير والتنفير من التنازع.
الصبر: وهو يستلزم الاستمرار على هذه الأحوال جميعها مهما كان ثقلها أو طال أمدها.
تجنُّب البطر والخيلاء: وهي صفات خطيرة تجرُّ على أصحابها الهزائم والنكسات، والحسرات والويلات، وهذا ما حدث لأبي جهل وحزبه، حين صمَّم أن ينزل بدرًا ومن معه، وينحروا الجزور، ويشربوا الخمور، وتعزف لهم القيان، فيتسامع العرب بهم فلا يزالون يهابونهم ويعملون لهم حسابًا أبد الدهر، بل لم يسلم المسلمون كذلك من آثار تلك الصفات حين خالطت قلوبهم أثارةٌ منها في (حنين) فأعجبتهم كثرتهم وقالوا لن نهزم اليوم من قلة.
الإخلاص والدعاء: وهما سلاحان ماضيان لا يحتاجان إلى قوة بدنية ولا مهارة حربية، فإذا كان الفرد من الضعفاء أو أصحاب الأعذار فليس أقلَّ من أن ينصر المجاهدين في الميدان بمثل هذا السلاح؛ امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعائهم وإخلاصهم".
يا أمة الإسلام.. ها قد عرفتم أسباب نصركم وفق سنن ربكم، ألا فالتمسوا هذه الأسباب، وسايروا هذه السنن؛ حتى نتخلَّص من هذا المسلسل المرير من الهزائم والنكسات، ونحقِّقَ ما نصبو إليه من أهداف وانتصارات.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله العالمين.