التاريخ : الخميس 21 يونيو 2007 . القسم : رسالة الأسبوع

المشهد العربي البائس والمأزق العربي الراهن وسبل الخروج منه


 

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومَن والاه..

 

يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165) صدق الله العظيم.

 

هل آنَ للعرب رسميين ونخبًا فكريةً وسياسيةً وشعوبًا أن يقفوا وقفةً مع النفس؛ وقفةً صادقةً لتتأمل حالةَ "العجز العربي الشامل" والمأزق العربي الكبير، الذي وصلت إليه الأمةُ العربيةُ بعد عقودٍ من الحصولِ على استقلالٍ سياسي ورحيل القوات الغازية المحتلة قبل أن تعود إليه من جديد؟.

 

المشهد العربي بائس والمأزق العربي كبير، وطريق الخروج منه واضح وليس منه مهرب، ولكننا ندور في أماكننا منذ سنواتٍ لا نستطيعُ أن نتقدَّم خطوةً صحيحةً إلى الأمام.

 

الفشلُ هو عنوانُ المشهد العربي على كل الأصعدة، وفي كلِّ المجالات، فلا تنميةَ اقتصاديةً حققها القادةُ ورجالُ الصناعة والزراعة والتجارة والمال، والدول التي يتمتع مواطنوها برغد العيش سببه هو الثروة النفطية التي ستنضب بعد حين، ولا تتمتع الشعوب العربية بحرياتها الأساسية، وتفتقد معظم النظم الحاكمة فيها أي شرعيةٍ حقيقيةٍ، ولا تستند إلى إرادةٍ شعبيةٍ، فلا انتخاباتِ حرَّة، ولا ديمقراطيةَ سليمةٌ، ولا دورانَ للسلطةِ بين أحزابٍ جادة تُعبِّر عن مصالحَ شعبيةٍ حقيقية، والانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان في كلِّ المجالاتِ هي العنوان الضخم والباب الرئيسي الذي يُهدد بعودة جيوش الاحتلال من جديدٍ بزعم إنقاذِ الإنسان العربي من بطش قادته الحكام وجيوش البوليس التي أصبحت بديلاً عن الجيوش المحاربة في ميادين القتال، وأصبح العدو الصهيوني الكيان المغتصب لفلسطين يتشدقُ في المحافل الدولية بأنه هو واحةُ الديمقراطية في المنطقة العربية.

 

والمناخ الفكري والثقافي يشهد استقطابًا حادًّا بين نخبٍ متغربة ولاؤها للغرب تُروِّج لمفاهيم منبتة الصلةِ عن جذور هذه الأمة العظيمة، وبين جمودٍ فقهي لفقهاء لا يريدون أن يتعاملوا مع مستجداتِ العصر وحاجاتِ الناس بروحٍ تجديديةٍ واجتهادٍ خلاقٍ، وبين مجموعاتٍ من الشباب المحبط اليائس الذي لا ينقصه الإخلاص ولكن تنقصه الحكمة والخبرة والإحساس بالمسئولية الحقيقية عن نهضة الأمة، فانعدم التسامح ولغة الحوار الذي عرفته عصور الازدهار في التاريخ الإسلامي، وكان علامةً على قدرة المسلمين على قيادة العالم والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية.

 

هذا المأزق العربي الراهن انعكس في العجز العربي الرسمي والشعبي سواء للجامعة العربية أو للحكومات منفردة أو حتى للنخب والأحزاب، وكذلك الشعوب العربية عن التأثير في أعقد القضايا التي تمر بها الأمة العربية، فكافة ملفات العرب الساخنة اليوم في أيدي حكومات دولية أو الأمم المتحدة.

 

القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين المركزية، أصبحت في يد أمريكا الحليف الإستراتيجي للعدو الصهيوني، ويتدهور الدور العربي فيها يومًا بعد يوم، وأصبح العرب- في غالبيتهم اليوم- منحازين للمعسكر الأمريكي ولا يجرؤون على مخالفةِ أمريكا، ويسعون في رضا العدو الصهيوني من أجل الحصول على التأييد والرضا الأمريكي.

 

والعجز العربي أوضح ما يكون في هذا الملف المصيري؛ فهم لا يستطيعون تنفيذ قراراتِ الجامعة العربية بإرسال بعثةٍ لتقصي الحقائق حول أحداث غزة من اقتتالٍ تسببت فيه فئةٌ متصهينةٌ منفلتةٌ تحظى بالدعم الصهيوني والأمريكي بالمال والسلاح أرادت أن تنقلبَ على إرادة الشعب الفلسطيني الحرة التي ترجمتها انتخابات ديمقراطية حصلت فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على أغلبية كبيرة، فعطَّلت عملها بكل الطرق ولم تلتزم باتفاق مكة المكرمة، وبعد أن كانت تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني إذا بها تنقلب على حكومةِ الوحدة الوطنية، وتسفك الدماءَ، وتستحل الحرمات؛ خروجًا على الشرعيةِ وبدعمٍ خفي من بطانةٍ تُحيط بالرئيس محمود عباس تحظى بدعمٍ صهيوني وأمريكي، وهم الذين تآمروا من قبل على المرحوم الرئيس ياسر عرفات- رحمه الله- حتى قتله الصهاينة بالسم البطيء بعد أن رفض الانصياع للإملاءاتِ الأمريكية في "كامب ديفيد"، وهم الذين يتآمرون على القضية الفلسطينية الآن.

 

ولم يستطع العربُ قبل ذلك أن ينفذوا قراراتِ القمة العربية سواء برفع الحصارِ عن حكومةِ الوحدة الوطنية التي تحظى بثقة أغلبيةِ المجلس التشريعى المنتخب، أو تسويق المبادرة العربية للسلام التي رفضها العدو الصهيونى منذ البداية، في ردٍّ صريحٍ على كلِّ القادةِ والزعماءِ والحكوماتِ التي تطلب رضاه، وهؤلاء هم الذين تركوا عرفات من قبل محاصرًا ولم يجرؤ أحدهم على كسر الحصار الذي فرضه عليه العدو الصهيوأمريكي.

 

هذه الحكومات هي التي تحمي الكيان الصهيوني من غضب الشعوب العربية، ومن هجماتِ المقاومة الفلسطينية، فتصر على الحكم الاستبدادي الديكتاتوري؛ خوفًا من الشعوب العربية المعارضة للسياساتِ الأمريكية، وتحمي الحدودَ بدروع الجيوش والأمن، وتحرم المقاومة من السلاح الذي ترد به عن نفسها قصف الطائرات والدبابات الصهيونية، وحتى مظاهرات الغضب في الشوارع العربية، وحملات الإغاثة الإنسانية أصبحت أكثر صعوبةً في ظل التحالفاتِ السرية بين معظم النظم العربية وبين العدو الغادر.. أما الشعوب المغلوبة على أمرها، فقد أعلنت في أكثر من مرةٍ أنها لن تستكين أبدًا، ولن تهدأ حتى تحصل على حقوقها المشروعة وتُحقق آمالها في نهضةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ في كلِّ المجالات، وإن خانتها النخب المثقفة المتغربة والأحزاب الرسمية الضعيفة المستسلمة فإنها قادرةٌ على شقِّ طريقها بالتضحيةِ والإصرار والتعبير عن رأيها بكل الوسائل والطرق ولن تعدم قيادات شعبية قادرة على العطاء والتضحية في سبيل الله، تسعد بالعمل وسط الناس، وتسعى إلى رضا الله عبر العمل من أجل الشعوب والأوطان.

 

العجز العربي يصل إلى الدرجة التي لا تستطيع الجامعة العربية فرض أي حلٍّ على أطرافِ النزاعات، فلو وصلت لجنة تقصي الحقائق إلى غزة ونجحت في التحقيقات وتوصلت إلى الطرف المخطئ والذي انقلبَ حقًّا على الشرعية.. فهل تستطيع إرغامه على الجلوس إلى مائدة الحوار من جديد بعد أن حظى بدعمٍ صهيوني- أمريكي- أوروبي هائل ثمنه تمزيق الأرض الفلسطينية وتشتيت الشعب الفلسطيني ونسيان القدس والمقدسات وتحرير الإرادة الفلسطينية والاكتفاء بلقمة العيش المغموسة بِذُلِّ الاحتلال؟

 

هذا النظام العربي الرسمي- حكوماتٍ وجامعةً عربيةً- ترك كل الملفاتِ للأيدي العابثة بالأمن القومي العربي من لبنان إلى الصومال إلى دارفور إلى الصحراء الغربية حتى أزمة الممرضات البلغاريات في ليبيا.

 

لبنان تتولاها أمريكا وفرنسا، والصومال تركوها لإثيوبيا تستبيح أرضها بغزوٍ مسلحٍ ورضا عربي وصمتٍ وتأييدٍ دوليَين، ودارفور لمجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي، والصحراء الغربية للأمم المتحدة، وأزمة الممرضات البلغاريات يتولاها الآن بلير قبل الرحيل.

 

وبعد كل ذلك يتباكون على التدخلات الإقليمية في العراق من تركيا وإيران، ولا يسألون أنفسهم لماذا أصبح الملف العراقي نهبًا مستباحًا شمالاً لتركيا وجنوبًا لإيران، وأهل بغداد والأنبار وبعقوبة وديالى تحت رحمة قوات الاحتلال الأمريكي التي تسومهم سوءَ العذاب في سجون "أبو غريب" وساحات القتل واستباحة الدماء؟.

 

الخروج من المأزق العربي ليس صعبًا، ولكنه يحتاج أولاً إلى إرادةٍ حقيقيةٍ للنهوض، واستعدادٍ للتضحية في سبيل استعادة إرادتنا الحرة المستقلة، ووفاءٍ للشعوبِ التي ترفض كل صورِ الهيمنة والاحتلال، ومعرفةٍ بالطريقِ إلى الحرية والتنمية والاستقلال: طريق الجهاد بكل صور الجهاد، جهاد النفوس الضعيفة المهزومة أمام أعدائها، جهاد المنافقين الذين يصفقون لكل مستبدٍ وديكتاتور، جهاد بطانات السوء التي تُحيط بالحكام وتُزين لهم سوء المصير، جهاد ضد التخلف والفساد والاستبداد، جهاد القلب والجنان، جهاد الكلمة واللسان، جهاد اليد والسنان ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: من الآية60).

 

جهاد الشعوب بالعمل والإنتاج، وجهاد النخب والمفكرين بقيادة الأمة ضد الاستبداد والفساد وتحرير إرادة الشعوب في حياةٍ ديمقراطيةٍ سليمةٍ وانتخاباتٍ حرَّةٍ ونزيهةٍ.. جهاد العلماء والفقهاء بالفكر السديد والرأي الرشيد والعلم الذي يقود إلى خشية الله ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: من الآية 28) في كلِّ مجالات الحياة.

 

مدارسنا وجامعاتنا، مزارعنا ومصانعنا، أسواقنا وتجارتنا، بيوتنا ومساجدنا، تحتاج إلى فهمٍ سليمٍ لأصول النهضة على مبادئ الإسلام وقيم الإسلام، وتستعيد عصور النهضة والحضارة في تاريخ المسلمين لإحياء قيم الإيمان والإحسان، قيم العمل والإنتاج، قيم احترام الوقت، قيم الاعتبار بسنن الله في عمران الأرض والاجتماع البشري ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ (البقرة: من الآية251) ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية140) ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية11).

 

واليوم أيها العرب والمسلمون ونحن نترسم طريقَ الخروج من المأزق الراهن لا بد لنا أن نمد أيدينا إلى إخواننا في فلسطين لإحياء الحوار الوطني الفلسطيني على أُسسٍ متينةٍ واستعادة اللُحمة الوطنية الفلسطينية ضد كل محاولاتِ الصهاينة والأمريكان لتمزيق الأرض والشعب، وأن نمد أيدينا بالإغاثة العاجلة لكل أبناء فلسطين، خاصةً في غزة المحاصرة، لإغاثة الشعب الصامد المرابط بكل صور العون والإغاثة، وأن نعمل بجدٍّ واجتهادٍ لإحياءِ القضية الفلسطينية في نفوس العرب والمسلمين ثم ننقلها إلى العالم الحر، وأن نفضح هذه الأقلامَ الخبيثةَ والطابورَ الخامس الذي لا يترك أي فرصةٍ لصرف العرب عن قضيتهم ومقدساتهم وتهوين عزائمهم لصالح العدو الصهيوأمريكي.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم