التاريخ : الخميس 28 يونيو 2007 . القسم : رسالة الأسبوع
الأجندة الأمريكية (أهدافها.. وسائلها.. مواجهتها)
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فمن سنن الله في خلقه سنة التدافع، فالناس يتباينون في الأفكار والمعتقدات، والاهتمامات والأولويات، والمصالح والغايات، وينتج عن هذا التباين في كثير من الأحيان التعارضُ والتناقضُ بين الأفراد والجماعات والشعوب والحكومات، وعندئذٍ يحاول كلُّ طرف أن ينفِّذ إرادته، ويحقِّق بغيتَه، ويدافع عن مصلحته، فإذا كانت هذه الأطراف متكافئةً في القوة أو متقاربةً في المستوى حدث التوازنُ، فلا تميل الكِفَّة كلَّ الميل إلى جانب على حساب آخر.
أما إذا توافرت وتعاظمت أسباب القوة مع أناسٍ غير مبالين بحرماتهم، ولا معترفين بحقوقهم، ولا مراعين لمصلحتهم.. فإن الفوضى تنتشر والفساد يعم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾ (البقرة: من الآية 251)، وهو بالضبط ما آلَ إليه حالُ العالم؛ حيث فشلت النظرية الشيوعية، وانتهت الحرب الباردة، وانهار الاتحاد السوفيتي، وتفتَّتت الكتلة الشرقية إلى دويلات ضعيفة متخلِّفة، وانفضَّ حلف وارسو لانتفاء مبرِّره، وبقي القطبُ الأمريكيُّ الأوحد الذي تجمَّعت لديه من صور القوة (العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية) ما لم يظفر بمثلِها كيانٌ آخر في التاريخ المعاصر.
وما زاد الطين بلَّةً أن هذا الكيان الأمريكي تغذِّيه ثقافةُ الغطرسة والتجبُّر، والعنصرية والانتهازية، وقد أعرب النموذج الاستعماري الأمريكي عن تطلعاته وطموحاته وأهدافه وسياساته ضمن (أجندة) خاصة به، يسعى لفرضها بلا مواربة ولا خجل، ولا كلَل ولا ملَل، مستعينًا في ذلك بسائر الدول الغربية التي ربطها بذيله وجرَّها خلفه، وأقام معها تحالفَ الزور والبهتان والبغي والعدوان، فيما بات يُعرَف بالنظام العالمي الجديد.
أهداف (الأجندة) الأمريكية وأولوياتها
إن الساحة التي تعمل فيها (الأجندة) الأمريكية واسعةٌ ممتدةٌ، حتى تكاد تصل إلى كل ركن من أركان المعمورة، إلا أن هناك مناطقَ ذات أولوية بالحسابات العسكرية الأمنية، أو الاقتصادية النفطية، أو التجارية الملاحية، وقد احتلَّت منطقتُنا العربية والإسلامية وفْقَ هذه الحسابات المرتبةَ الأولى في قائمة الاستهداف الأمريكي، خاصةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي اتخذتها أمريكا تكأةً لإعلان حرب كونية شعواء عمياء على ذلك الشبَح الغائم الغامض الذي أسمته (الإرهاب)، وقد سعت الأجندة الأمريكية في منطقتنا لتحقيق عدة أهداف، أبرزها ما يلي:
* ضرب الجماعات الإسلامية (التي تصفها أمريكا بالأصولية أو الإرهابية والتي تعتبرها معامل تفريخ لعناصر التطرف والعنف)، وتدمير مقوماتها الأساسية، وملاحقة أفرادها أمنيًّا، وتجفيف منابع تمويلها، وتجميد أرصدتها، وتخريب مؤسساتها وشركاتها، وذلك في أمريكا نفسها، وفي البلاد التي أدخلتها طوعًا أو كرهًا في حلفها الشيطاني المشئوم.
* السيطرة على الموقع الإستراتيجي المهمّ لمنطقتنا، والاستيلاء على منابع واحتياطي النفط كضرورة للتحكُّم في القرار الاقتصادي، وبالتالي السياسي العالمي.
* معاداة الأنظمة التي ترفع رأسها وتقف في وجه أمريكا وتعارض سياستها، وتُعِيْقُ مصلحتها، وقد يكون ذلك بإعلان الحرب على تلك الأنظمة، وتوجيه الآلة العسكرية الإجرامية لخلعها وتنصيب غيرها مكانها، كما حدث في أفغانستان والعراق، أو يكون بخنقها وإرباكها والتأليب عليها كما هو الحال في سوريا وإيران.
* دعم الكيان الصهيوني الغاصب عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، والتعهُّد بضمان تفوُّقه على الدول العربية مجتمعةً؛ حتى يظلَّ خنجرًا في قلبها، يهدِّد أمنها واستقرارها ويُعِيق وحدتها ونهضتها.
وسائل تنفيذ الأجندة الأمريكية
لا تتورَّع الإدارة الأمريكية عن تبنِّي كلِّ الحيل الشيطانية والوسائل غير الأخلاقية وغير الإنسانية في سبيل تنفيذ أجندتها، ومن ذلك:
* استخدام ما يسمَّى (القوة الناعمة)، والتي تعني محاولة تغيير الصياغة الفكرية والثقافية والاجتماعية لمواطني البلاد المستهدفة، وذلك عبر مختلف وسائل التأثير الإعلامية والثقافية والأدبية والفنية، وكلها تسوق النموذج الأمريكي وتروِّج له، حتى تنشأ أجيالٌ قد اقتنعت به عقولُها وأُشْرِبَتْه قلوبُها، فأصبحت متنكِّرةً لثقافتها وأصالتها، بل ومتمرِّدةً على ذاتها وهويتها.
* إحداث (الفوضى الخلاَّقة) وهو أسلوبٌ أعنفُ من سابقه، ويرادُ به تعكيرُ صفو المجتمعات، وتوتُّر أجوائها، وخلط أوراقها، وهدم ثوابتها، فلا يستقرّ لها قرار، ولا يستمرّ لها نظام، ومن ثمَّ تتعرض للتفكيك وإعادة التركيب، وفق أهواء شياطين هذه السياسات ومصالحهم.
* تأجيج الصراعات الطائفية، وتعميق الخلافات المذهبية، وإثارة النعرات القومية لنشر الفتن والاضطرابات في المجتمعات.
* تقديم الدعم المادي والمعنوي للنخب العلمانية والليبرالية، والزجّ بهم إلى مواقع التأثير الفكري والإعلامي والثقافي والأدبي والفني.
* إحاطة النخب السياسية بالاهتمام والرعاية وخاصةً المرشحة لأداء أدوار محورية أو اعتلاء مناصب رفيعة.
* مساندة كل نظام سياسي يعلن ولاءَه لأمريكا، ويُظهر تبعيتَه لسياستها، ويُبدي استعدادَه لتنفيذ أجندتها، مهما كان استبدادُ هذا النظام أو فسادُه أو افتقادُه للشرعية.
* فرض العولمة الاقتصادية، وذلك بعقد المؤتمرات وتوقيع الاتفاقيات، مع محاولةِ استقطاب النخب الاقتصادية في بلادنا، وربطِها بالشركات الأجنبية، وخاصةً الأمريكية والصهيونية.
* استغلال برامج المِنَح والمعونات من أجل إصدار الأوامر وإملاء الشروط، ومحاولة الوصول إلى مختلف الشرائح الشعبية، عن طريق دعم المشروعات الاقتصادية الصغيرة.
* إشهار سيف (ملف حقوق الإنسان) و(الحريات الدينية للأقليات) في وجه بعض الحكومات، وذلك بصورة انتقائية وازدواجية، لإرهاب تلك الحكومات وابتزازها وتحقيق أقصى استفادة سياسية منها.
عوامل داخلية مساعدة
ها هي الأجندة الأمريكية قد أسفرت عن وجهها القبيح وأهدافها الخطيرة ووسائلها الخسيسة، ومع ذلك فما كان لها أن تنفَّذ إلا بظروف مهيِّئة وعوامل مساعدة في داخل بلادنا، ومنها:
* وجود بعض النخب الثقافية الذين يرون مستقبلهم في اتِّباع أعداء الخارج وخدمتهم.
* انتشار الطابور الخامس من العملاء المأجورين والجواسيس الخائنين ممن باعوا دينَهم وأهلَهم وأوطانَهم بلعاعة من الدنيا حقيرة.
* ابتلاع بعض الفئات الداخلية للطُّعم المسموم، باستجابتها لدعاوى الفرقة، وسقوطها في الفتنة، واستقوائها بالخارج على خصومها من أبناء وطنها.
* التحالف النَّكِد التَّعِس بين الاستعمار والاستبداد، ويعدُّ هذا من أخطر العوامل وأهمِّها؛ حيث جثَم الاستبداد في الداخل على صدور الشعوب، متمثِّلاً في أنظمة قمعية دكتاتورية، استحوذت على السلطة، وانفردت بالقرار، وحرَمت الشعوبَ من المشاركة في صنع الحياة وتقرير المصير، وزوَّرت إرادتَها، وصادرت حريتَها، واغتصبت حقوقَها، وضيَّعت مصالحَها، وقد وجدت هذه الأنظمةُ كلَّ الدعم والتأييد من القوى الاستعمارية؛ من أجل تمرير فروعها، وتنفيذ أجندتها، متنكِّرةً في ذلك لمبادئها وقيَمِها، ومخالفةً لدعاواها وشعاراتها (في الإصلاح والحريات وحقوق الإنسان)، ولم تجنِ الأمة من هذا التحالف الشيطاني إلا مزيدًا من الضعف المادي والتخلف العلمي.
كيفية المواجهة؟!
مع إقرارنا بقتامة الصورة، وخطورة الكيد، وصعوبة الظروف.. إلا أن هذا كله لا ينبغي أن يفتَّ في عضد الأمة، أو يُوهنَ عزمَها، أو يُشعِرَها بالعجز واليأس، فأمام الأمة- بحمد الله- كثيرٌ من وسائل المواجهة الناجعة وأسلحتها القاطعة، ومن ذلك:
* استعادة الوعي: فلا يمكن أن يمرَّ هذا التآمرُ إلا من خلال ثقوب الجهل والغفلة، ومن ثم فينبغي إعادة الوعي إلى أبناء أمتنا، وإبقاؤه يقظًا متَّقدًا دائمًا.
* الاعتزاز بهويتنا وثقافتنا الإسلامية: فالإسلام أساس انتمائنا الأول وولائنا الأكبر، وهو مرجعيتُنا العليا لعقيدتنا وقيمنا وأخلاقنا وسلوكنا، وهو الذي يحفظ للمجتمع كيانَه وشخصيتَه وتماسكَه وقوتَه، فيتأبَّى على التبعية لغيره أو الذوبان فيه.
* الحرص على الوحدة: فإذا كانت قوى الاستعمار والاستكبار بهذا الحرص المعروف والدأب المحموم لإحداث التنازع وبثّ الفُرقة بين أبناء المجتمع الواحد، فلتكن الشعوب في المقابل أشدَّ حِرصًا على إجماع أمرها وتوحيد صفِّها؛ حتى تفوِّتَ الفرصة على أعدائها، وتُقيمَ بتماسكها وترابطها حائلاً منيعًا دون أطماعها ومكائدها.
* الالتفاف حول مشروع المقاومة: فالمقاومة هي سهام الأمة الموجَّهة إلى نحور أعدائها في ميادين الصراع والمواجهة؛ لتردَّهم على أعقابهم خائبين خاسرين، فينبغي على الأمة دعْمُ هذه المقاومة، ونشْرُ ثقافتها، والالتفافُ حول مشروعها، وشدُّ أزر رجالها؛ بإظهارِ التقدير والإكبارِ لهم، والإشادةِ ببطولاتهم وتضحياتهم، وإخلاصِ الدعاء لهم، والجهادِ بالمال معهم، وتنقيةِ صفوفهم من المتآمرين والمتربِّصين، وفضحِ المرجفين والمثبِّطين من دعاة الانبطاح والاستسلام.
* التبنِّي الجادّ والصادق لبرنامج الإصلاح في المجالات المختلفة: التربوية والثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ باعتبار ذلك سبيلاً لتعافي الأمة ونهضتها، ولتحقيق قوتها وعزتها.
* إطلاق الحريات: وهو من أهم أسلحة المواجهة مع أعدائنا، فحرية الإنسان تفجِّر في الإنسان طاقاتٍ هائلةً، تفعل الأعاجيب، وتحقِّق المعجزات، أتذكرون موقف عنترة بن شداد، حين رفض القتالَ مع قبيلة "عبس" في مواجهة "طيء" وذلك لأنه كان ما زال عبدًا، وردَّ على أبيه شداد بن قراد حين ألحَّ عليه ليشارك في مَحْو العارِ عن قومه، فقال: "إن العبد لا يعرف الضرب والكرّ، وإنما يعرف الحلب والصَّرّ" فخلع أبوه عنه ربْقةَ العبودية، ونسَبَه إليه، فانطلق في الحال كالليث الهصور، يقتحم الصفوف، ويضرب الأعناق؛ حتى حقَّق بمفرده النصرَ المبينَ، ومحا العارَ المشينَ، فهكذا تصنع الحرية.. فهل يسعى الأفراد والشعوب لاستردادها؟! وهل هم على استعداد لتحمُّل تكاليفها وأعبائها؟! والله الموفق والمستعان..
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.. والحمد لله رب العالمين.