التاريخ : الخميس 29 نوفمبر 2007 . القسم : رسالة الأسبوع
راية الحق مسئولية كل الأمة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمدُ لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ المرسلين؛ سيدنا محمدٍ، النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
في وقتٍ تعالت فيه صيحاتُ الانهزام، وتتابعت دعواتُ التفريط، وتسارعت فيه مواكبُ التبعية، تقدِّم فروضَ الولاء والطاعة للاستبداد الأمريكي والطغيان الصهيوني، واستحالت كلُّ دعوةٍ للحق رِدَّةً، وكلُّ تمسُّكٍ بهويَّة الإسلام رجعيةً، وكلُّ دعمٍ لمقاومة المحتل تخريبًا وإرهابًا..
يعود الإخوان المسلمون بالقضية إلى أصولها؛ ليضعوا الجميعَ أمامَ مسئوليتِهم من الأمانة التي سيُسألون عنها بين يدَي ربهم.. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72)، وهذه المسئوليةُ تقعُ على الجميعِ بغير استثناء؛ حكامًا ومحكومين.. شيوخًا وشبابًا.. علماءَ وأميِّين.. رجالاً ونساءً؛ فالكل- حسب موقعه وتبعًا لقدراته وإمكاناته- أمام التبعة سواءٌ، وفي ساحة الأمانة مُطالَبٌ.
وقد يتوهَّم البعض أمام ثقافة الوهن، التي يبثُّها إعلام الغرب في عقول أبناء الأمة الإسلامية، أن قدرةَ أمتِنا على المواجَهَةِ والبقاءِ وامتلاكِ أسبابِ الممانعةِ في مواجهة الاستكبار والبغيِ والغيِّ قد انعدمت، أو أن شوكةَ المسلمين قد انكَسَرت، وذاك هو غايةُ ما يسعَى المتربِّصون بأمتِنا إليه، وساعتَها يستتبُّ لهم الأمرُ، وتنقادُ لهم أمتُنا ذليلةً خانعةً خاضعةً، يفعلون بها ما يشاءون.
غيرَ أن الإخوان المسلمين يدعون كلَّ الأمة- وعلى رأسِها ولاةُ أمرِها- إلى الإصغاءِ لصوتِ العزةِ الإلهيةِ يدوِّي في أجواءِ الآفاقِ، ويملأُ الأرضَ والسبْعَ الطباقَ، ويوحي في نفسِ كلِّ مؤمنٍ أسمَى معاني العزة والفخار ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).
إنه النداءُ الذي إذا استجابت له قلوبُ القادةِ والشعوبِ لأفاقت أمتُنا من تأثير المخدِّر الغربي على حقيقة ولاية الله لها؛ لينصرَ من عَمِل، ويُدافعَ عمن ظُلِمَ، ويُحرِّرَ من أُسِرَ، ويُقوِّيَ مَن حُورِبَ وأُخرجَ من داره وأرضه، ويُعزَّ مَن إليه لجأَ، وبه احتمى.. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
فيا قومنا..
لقد جرَّبتم عبْرَ عقود عديدة مناهجَ وسياساتٍ وقوانينَ وضعيةً، وأنتم اليوم مطالَبون بوقفةٍ جادَّةٍ مع أنفسكم لإعادةِ الحسابات، وتحديدِ المواقفِ في ضوء منهج الله، الذي سعى المستعمرُ بشتَّى الطرقِ لإقصائكم عنه؛ حتى يتسرَّب الوهنُ إلى النفوسِ، وتصيرَ روحُ الانهزامِ مسيطرةً على القلوب، وشبَحُ الفرقة يطاردُ كلَّ أملٍ في الوحدة، وتمتدُّ يدُ الفرقة تأكلُ الأقطارَ ثم الأفراد، فعودٌ إلى معين الله لاستلهام القوة، واكتشاف سرِّ العزة الكامن في أمة الإسلام، باتباعِ منهجِ الله وموالاةِ أهل الإيمان ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: من الآية 257) ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 150) ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: من الآية 55) ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 196) ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 51) ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (يونس: 62- 63) ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ (محمد: 11).
فأيُّ قوة تلك التي تستعبد قومًا نسَبَهم الله إلى نفسه؟! وأيُّ فضلٍ لجماعة يعلو على فضلِ مَن مَنَحَهُ اللهُ فضلَ ولايتِه واتباعِ منهجِه؟! وأيُّ عزٍّ لإمبراطوريةٍ مهما بلغ يضاهي عزَّ أمةٍ أفاضَ اللهُ عليها من فَيْضِ عزَّتِه؟! ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).
فجدِّدوا يا شعوب العالم الإسلامي استشعارَ الولاءِ لله، وارفَعوا رايةَ الإسلامِ، وأقيموا دولةَ الإسلام في نفوسكم تقُم على أرضكم، واعلَموا أن الإسلام إن لم يكن بكم فسيكون بغيركم، ولكنكم لو لم تكونوا به لن تكونوا بغيره ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 38).
ولا يغرَّنَّكم هذا التقدمُ العلميُّ والتقنيُّ وتلك المدنيةُ التي شيَّدتها أيادي الظلم والجور، ولا يستخفَّ بكم أو يخدعنَّكم هذا الإعلامُ المزيّفُ، ولا تشغلنَّكم أو تُلهِكُم الألفاظُ البرَّاقةُ عن إدراك الحقائق، ولا المظاهر عن الجواهر؛ فإن لإسلامكم منهجًا فيه سعادةُ الدنيا وفلاحُ الآخرة، وتلك هي سياستُنا لا نبغي بها بديلاً، فسُوسوا بها أنفسَكم، وادعُوا إليها غيرَكم؛ تظفروا بالعزة في الدنيا والآخرة.
وقد يقول القائل: وما يفعل فردٌ واحدٌ في أمة مستضعفة؟! ولكن الإجابة في قول المصطفى- صلوات الله عليه وسلم-: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا"، ولنا فيمن سبق الأسوةُ الحسنةُ، فقد رفعوا جميعًا شعارَ الفعل لا القول، مؤكدين أن فعْلَ رجلٍ في ألف رجل خيرٌ من قول ألف رجل في رجل، فليكن المسلمُ سبَّاقًا للخير مغلاقًا للشر، رافضًا للظلم مهما بلغ حجمُه، مؤيدًا للحقِّ مهما ضاقت دائرتُه، متمسِّكًا بالحقِّ غير مفرِّط، ناصرًا للمظلوم ولو بكلمة مواساة، وداعمًا للمجاهد المقاوم ضد الاحتلال؛ المدافع عن الحرمات والمقدَّسات ولو بدعوات السجود في ساعات السَّحَر، وليعمل المسلمُ على تلقينِ الحقائق لمن حوله، وبثِّ الأمل في النفوس، وتربيةِ النشء على حقوق الأمة.
أما ولاة الأمر..
فإننا نذكِّرهم بأن كتُبَ التاريخ حفلت بصفحاتٍ من الاستبداد، استجلبَت سخطَ الناس وغضبَ الله، لكنها في الوقت ذاته خلَّدَت قادةً وزعماءَ، صدَعوا بالحق، وارتَضَوا أن تكون شهادتُهم لله خالصةً، ولوجه الحقيقة مبيِّضةً، وللأوطان حافظةً وصائنةً، واليوم لا تنتظر منكم شعوبُكم إلا وقفةَ الحقِّ، فلا تنساقوا وراءَ دعوات التفريط، ولا أوهام السلام، ولا دعوات التركيع.
إن مؤتمر أنابوليس، هرول إليه العربُ وغيرُهم، بلا رؤية ولا منهج، ويريدون أن يقفزوا على الواقع الذي يعرفه القاصي والداني؛ وهو أن الصهاينة احتلوا أرضَ فلسطين، وطردوا أهلَها، وهدموا بيوتهم، وحرَّقوا أرضهم، وقتَّلوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم.. هذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن أذهاننا لحظةً، وما يتطلبه ذلك من تحركٍ جادٍّ وفعَّالٍ لتحرير الأرض واستنقاذ المقدسات.
وإن كان حكام الأمة العربية والإسلامية أغفلوا هذه الحقيقة، وسعَوا لاسترضاء الإدارة الأمريكية، فأمَلُنا كبيرٌ في شعوب الأمة؛ أن تكون دائمًا على مستوى رفيع في فهمِ الواقع، والتمسكِ بالحق، والدفاعِ عنه بكل الوسائل المتاحة.
إن المتربصين بالأمة الإسلامية لن يقنعوا إلا بالسيطرةِ على الأوطان، ومحاولةِ إخضاعِ أهلِها ونهبِ ثرواتِها وسلبِ خيراتِها، وانظروا ماذا يفعلون بالعراق وأفغانستان والصومال، وها هو خنجرُ التقسيم يحاول تمزيق السودان، وأصابع المؤامرة تعبَث بأمن واستقرار لبنان، وهكذا يستمرُّ المسلسلُ الاستعماريُّ رافعًا شعار (فرِّق تَسُد).
ويا شباب الأمة..
الآمال معقودة عليكم، وفي الوقت ذاته تستهدفكم كلُّ أسلحة المتربصين بأمة الإسلام، بالجهل تحاصرُكم، وبالغواية تصرفُكم عن طريق الهداية، وبالتيئيس والإحباط تسعى لتطوِّقَكم، وكلَّ يوم تُستَحدَثُ أسلحةٌ؛ فاجعلوا المعرفةَ في شتَّى المجالات النورَ الذي به تسيرون، وبهديه تُبْدِعون، وفي ضوئه تتقدَّمون؛ حتى لا تحرثوا البحر، أو تقوِّضوا ما شيَّدته أيادي غيرِكم بغير قصد.
واسعَوا لبعث الأمل في نفوس مَن وراءكم، ومن يأتي بعدَكم؛ لأن التبعة عليكم ثقيلة، والأحداث والخطوب متلاحقة، وتحتاج إلى همَّة الشباب لمواجهتها، فجدِّدوا إيمانَكم، وحدِّدوا غاياتِكم وأهدافَكم، وأول القوة قوةُ العقيدة والإيمان، وثانيها قوةُ الوحدة والارتباط؛ فآمنوا وتآخَوا، واعملوا بجدٍّ، وترقَّبوا بعد ذلك ساعة النصر، وإنه لقريبٌ بإذن الله، وبشر المؤمنين.
إن الإخوان المسلمين يوقنون أن سننَ الله غلاَّبة، ونواميسَه ثابتةٌ؛ فلا يُقعِدنَّكم عن السير طولُ الطريق؛ فأولُ الغيثِ قطرةٌ، ورحلةُ الألف ميل تبدأ بخطوةٍ، فتحرَّكوا حركةَ الواثقِ العارف، المتحصِّنِ بالعلم والمعرفة، والمستقوي بإيمانه، والمستعلي بانتمائه، والمتجردِ بيقينه في النصر، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، و﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 5- 7).
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَكَ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.