التاريخ : الخميس 06 ديسمبر 2007 . القسم : رسالة الأسبوع
الحج.. تجديد للإيمان ورمز لوحدة المسلمين
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37).
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإن الحجَّ الركنُ الخامسُ من أركان الإسلام، وهو عبادةٌ تنظِّم من الإنسان قلبَه وبدنَه ومالَه، وتبتدئ بنيِّة الحج خالصًا لله، مع التجرُّد من الثياب المَخِيطَة من صنوف الزينة والترف، وتنتهي بالطواف حول بيت الله الحرام.
ومن الحج نستمدُّ زادًا يطهِّر قلوبَنا، ويغيِّر نفوسَنا، ويقوِّي عزمَنا، ويشدُّ أزرَنا، ويوحِّد صفَّنا، في مواجهة الأخطار التي تهدِّدنا، والأعداء الذين أجمعوا أمرَهم على تركيع أمتنا، واحتلال أرضنا، والاستيلاء على مقدساتنا، وما مؤتمر "أنابوليس" منا ببعيد!!.
من أسرار الحج
إن لكل عملٍ من أعمال المناسك سرًّا ينطوي عليه، يجب أن نفطن إليه؛ فما الإحرام والتلبية في حقيقتهما إلا التجرُّد من شهوات النفس والهوى، والتوجُّه بالأعمال كلها لله، والمسارعة إلى الطاعة والامتثال لأمر الله؛ لنَيل مرضاته، وطلبًا لجنَّاته.
وما الطواف إلا دورانُ القلب حول قدسية الله صنع المُحِب مع المحبوب المُنعِم، الذي تُرى نعمُه، ولا تُدرك آياتُه، وما السعيُ إلا التردُّد بين عَلَمَيْ الرحمة؛ التماسًا للمغفرة والرضوان، وما الوقوفُ بعرفة إلا بذلُ المُهَج في الضراعة بقلوبٍ مملوءةٍ بالخشية، وألسنةٍ مشغولةٍ بالدعاء، وآمالٍ صادقةٍ في أرحم الراحمين، وما الرَّميُ إلا رمزُ مقتٍ واحتقارٍ لعوامل الشر، ونزعاتِ النفس، ورمزٌ ماديٌّ لصدق العزيمة في طرد الهوى المُفسِد للأفراد والجماعات، وما الذَّبحُ- وهو الخاتمةُ في دَرَج الترقِّي إلى مكانة الطُّهرِ والصَّفاءِ- إلا إراقةُ دم الرذيلة بيدٍ اشتدَّ ساعدُها في بناء الفضيلة، ورمزٌ للتضحيةِ والفداءِ على مَشهدٍ من جند الله الأطهار الأبرار.
في الحج تخليةٌ وتحليةٌ وزادٌ
فإذا ما فَرَغَ من ذلك عاد إلى وطنه آمنًا مطمئنًا، قويًّا في الأخذ بنفسه وأمته إلى سبيل الهدى والرشاد، وقد أرشد القرآن إلى ما يضمن للمؤمنين هذا الهدف السامي؛ فقال: ﴿فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ (البقرة: من الآية 197)، وهذا جانب التخلية والتطهير من المُدنِّسات النفسية والمُفرِّقات الجماعية.
أما جانب التحلية بالفضائل المُزكِّية للنفوس والمُقرِّبة إلى الله، فإنك تراه في قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: من الآية 197).
وبالطهارة النفسيَّة والتزكية القلبيَِّة والزاد من التقوى ينطلق المسلم ليُغيِّر كلَّ شيءٍ في حياته، ويسري تأثيره فيمن حوله ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).
عرفات.. مظهر الوحدة الإسلامية
إنَّ الأمة الإسلاميَّة أمةٌ واحدةٌ، وفي عرفات تتجلَّى هذه الوحدة؛ حيث يقف المسلمون من كل القارَّات على اختلاف الأجناس والألوان واللغات والطبقات؛ ليعلنوا في خشوع وإخبات: "لبيك اللهم لبيك".
هذه الوحدة تُوجِب على المسلمين أن يشارك بعضُهم بعضًا في السرَّاءِ والضرَّاءِ، والشِّدة والرَّخاء، وتشترك في الذَّود عن مصالحها، وتتعاون في رفع الأذى والضَّيْم إذا نزل بأحدٍ منهم، وتعمل على ردِّ العدوان إذا لحق بأي شعبٍ مسلمٍ، وتتقدَّم- بطيب نفسٍ- لتتقاسم المنافعَ والخيراتِ بينها، فتواسي الشعوب المسلِمة التي تَحُلُّ بها النوازلُ أو الزلازلُ أو المجاعاتُ، وبذلك يحقِّقون التوادَّ والتراحمَ فيما بينهم، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى".
ومن أجل ذلك يجب أن تعمل الحكومات والأنظمة والشعوب العربيَّة والإسلاميَّة على رفع الحصار الظَّالم عن إخواننا في فلسطين، حتى وإن غضبت أمريكا أو الصهيونية؛ فمرضاة الله أَوْلى وأعظم.
الحج.. مؤتمر إسلامي عالمي
عجيبٌ هذا الواقع المرُّ الذي نرى فيه مؤتمراتٍ بزعامة أمريكا والصهيونيَّة تُعقد في ديارهم؛ للإجهاز على ما بقي من فلسطين، وإقامة الدولة اليهودية، والضَّرب بيدٍ من حديدٍ على كل من يتحدث عن ضرورة الاعتزاز بإسلامنا وإعلان إيماننا الذي يدعونا إلى الجهاد في سبيل الله؛ لاسترداد أرضنا المغصوبة، وتطهير مقدساتنا من رجس الصهيونيَّة العالميَّة، والوقوف في وجه أمريكا الباغية، والقوَّة الغاشمة التي سخَّرت أسلحتها للتخريب والتدمير وترويع الإنسانية!!.
إن هذا كلَّه يفرض أن يكون للمسلمين إزاءَ ذلك اجتماعٌ عامٌّ شاملٌ، يحدِّدون فيه موقفهم من كل ما يدور حولَهم، ويشهدون به منافعهم التي تَقِيهم وتَقِي العالمَ شرَّ ذلك الطَّيْش الأمريكي الصهيوني، الذي ينشر الرعب والخوف، ويقضي على الأمن والسلام.
الاهتمام بشئون المسلمين واجب
إن الاهتمام بأمر المسلمين يفرض علينا أن نجعل من الحج مؤتمرًا عامًّا لبحث قضايا المسلمين في كل مكان؛ "فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"؛ فحقيقٌ بنا أن يجتمع رجال العلم والرأي، ورجال التربية والثقافة، ورجال النظام والإدارة، ورجال المال والاقتصاد، ورجال الشَّرع والدين، ورجال الحرب والجهاد.. يلتقي هؤلاء وقد نشرت عليهم مكة أجنحتَها وجمعتهم بكلمة الله، وحولَ بيت الله يتعارفون، ويتشاورون ويتعاونون، ثم يعودون إلى بلادهم أمةً واحدةً مُتَّحدةَ القلب والإحساس والشعور.
عجيبٌ أن تهرع الوفود العربية لتصفِّق وتبارك صنيعَ الأعداء، ولا نرى من حُكَّامنا من يغتنم مؤتمر الحجِّ العالمي ليدعوَ إليه حُكَّام العرب والمسلمين ومن يرغب أن يشهده من الناس أجمعين؛ ليُعلَن فيهم بعزِّة المؤمنين:
* فِلسطين، كل فلسطين، دولةٌ عربيَّةٌ مسلِمةٌ، وهي ملْكٌ لجميع المسلمين، ولا يملك أحدٌ صلاحيةَ التنازل عن شبر منها.
* ومع إسلامية دولة فِلسطين، كل فِلسطين، فالمسلمون أمناء على مقدسات غير المسلمين من نصارى ويهود، وحماةٌ لكل من يعيش على أرضها من أهلها الأصليين، وتاريخنا شاهد على ذلك، أما الغزاةُ والشراذم الذين قَدِمُوا من الجحور بعد أن عاثوا في الغرب فسادًا، فلا مكان لهم على أرض فلسطين المسلِمة.
* وأن الجهاد المُقدَّس في سبيل الله هو طريقنا لاسترداد حقوقنا، وقد قرن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بين الحج والجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمانٌ بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حجٌ مبرورٌ" (البخاري).
ولا سبيلَ لنا غير الجهاد المشروع في ديننا، ومقاومة المحتل التي هي حقٌّ للشعوب في كل القوانين والنُّظُم؛ وذلك بعد أن سئمنا من مؤتمراتٍ لعشرات السنين، وبعد أن صَفَعَنَا النظام العالمي على مدى نصف قرن بكل مؤسساته الدولية والإقليمية، والتي ما قامت إلا لتُبارك الصهيونية في كل ما تصنع، وتحُول بيننا وبين أن نمسَّها بسوء، فلتذبحْ هي من تريد، ولتأخذْ ما تريد، ولتشترطْ ما تشاء، وعلى المسلمين أن يباركوا ذلك في امتنانٍ، ويعلنوا القبول والتسليم!!.
هيا نتَّحد ونتعاون
ففي هذا المؤتمر السنوي لوفد الله دعوةٌ لجميع المسلمين لأن يحُلَّ الاتحاد والتقارب محلَّ التفرُّق والتباعد، والتآزر والتعاون محلَّ التنابذ والتخاذل، وأن يشعر المسلمون من خلال وحدتهم بالقوة والمنعة، وأن كل مسلم- في أي أرض- موصولٌ بما يزيد على مليار مسلم، يتحرَّكون من أجله، ويناوئون قوى الأرض مُجتمِعةً في سبيل رفع الضَّيْم عنه.
صيانة الدماء والأموال والأعراض
وليحذرْ كل مسلم أشدَّ الحذر من أن يُزيِّن له الشيطان سفك دم أخيه المسلم، أو استباحة عرضه، أو استحلال ماله بما يلقيه من شبهات وزخرف القول؛ ليُرْدُوهم وليلبسوا عليهم دينهم، وليسمعْ كل مسلم وليسمع النَّاس أجمعون للرسول- صلى الله عليه وسلم- في يوم الحج الأكبر، وهو يُرسي دعائم القانون العام لحرمة الدماء والأموال والأعراض، قال- صلى الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟!. قالوا: نعم قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا؛ يضرب بعضكم رقاب بعض".
وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.