التاريخ : الخميس 14 فبراير 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
في ذكرى الإمام الشهيد "حسن البنا" رائد المشروع الحضاري الإسلامي
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف).
إنني لا أكون مغاليًا ولا مجانبًا للصواب حين أقول: إن الله سبحانه وتعالى قد اختار على رأس القرن العشرين الرجل الملهم، والداعية الصالح، الإمام حسن البنا الذي جدَّد الإسلام، وحمل رايته قبل أن تسقط، فذاد عنها، وربَّى الرجال في ظلالها، ونشر الرسالة بين العالمين، جاء في الحديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أخرجه أبو داود).
لقد استطاع الإمام البنا أن يُكوِّن هو وإخوانه أهم حلقات الكفاح المصري والعربي والإسلامي المعاصر، لقد كانوا روحًا تسري في كيان الأمة فتحييها بالقرآن من جديد، بعد أن اجتمع عليها أعداؤها وعطَّلوها عن أداء دورها واستعمروها، وبهذه الشرارة الإيمانية عادت الأمة إلى الوجود، لتكافح في سبيل استرداد حريتها وكرامتها وهي تحمل راية التوحيد، وفي إطار مرجعية شرعية إسلامية مرنة بنَّاءة وعميقة وقوية وهادفة.
الفهم الشامل للإسلام
إن الإمام البنا يُعتبر- بحق- رائدًا للمشروع الحضاري الإسلامي، صاغه لبعث حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة متمثَّلةً في جماعة الإخوان المسلمين؛ لأن الإسلام لم يكن في يومٍ من الأيام دينَ الزوايا أو القعود أو التعطُّل أو الدروشة التي ابتُلي بها العالم العربي والإسلامي في فترة التخلف، كما أن الإسلام لم يكن ذلك النمط الذي توقفت عنده المؤسسات في التعليم الديني، لكن الإخوان تجاوزوا كل هذه الأنماط والألوان وعمدوا إلى التلقِّي من السلف الصالح من الكتاب والسنة، ففي الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
يقول الإمام البنا في مشروعه الذي قدَّمه لليسانس في كلية دار العلوم: "إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان؛ الأول: خاصٌّ، وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، الثاني: عامٌّ، وهو أن أكون مرشدًا أو معلِّمًا؛ إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم.. تارةً بالخطابة والمحاورات، وأخرى بالتأليف والكتابة، والثالثة بالتجوال والسياسة".
لقد أخذ الإمام البنا الإسلام على أنه ذلك النظام الشامل الذي ينظِّم شئون الحياة جميعًا، ويفتي فيها؛ فهو دين ودولة، ومصحف وسيف، وعبادة وقيادة، وتشريع وقانون؛ ولذلك أعلن أن جماعته هي دعوةٌ من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب، وهي دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
مكانة القضية الفلسطينية
اهتم الإخوان اهتمامًا عظيمًا بقضايا العالم العربي والإسلامي، خاصةً قضية فلسطين التي احتلتها عصابات بني صهيون، ودنَّست مقدساتها، وارتكبت في حق شعبها أبشع أنواع التصفية والإبادة.
لقد أدرك الإخوان منذ وطئت أقدام عصابات بني صهيون أرضَ فلسطين مدى ما يخططون له، فاستعدوا له بالتربية الإيمانية الجهادية، وضاعف الإمام البنا جهودَه في كل مجال وميدان حتى أصبحت القضية الفلسطينية من القضايا المركزية عند الإخوان المسلمين، بل وعند الأمة العربية والإسلامية.
ويُعتبر الإمام البنا من شهداء قضية فلسطين؛ حيث كانت الدعاية الواسعة التي قام بها- ومن ورائه الإخوان- في مختلف المدن والقرى، وما أحدثه ذلك من استنفارٍ لشباب الإخوان لمواجهة الصهاينة في حرب فلسطين 48، وقيام الإمام البنا بزيارته للمجاهدين في فلسطين؛ كل ذلك جعل الصهاينة يفقدون عقولهم، ويشعرون بالخطر الحقيقي.
إن الجهود التي بذلها الإخوان ويبذلونها إلى اليوم على جميع المستويات في تحذير المسلمين من خطر المشروع الصهيوني الذي يستهدف هوية الأمة واحتلال أرضها ونهْب ثرواتها والقضاء على خصوصيتها الثقافية.. لَهُو أمرٌ يجب أن تنتبه له الأمة، خاصةً من يقدِّرون الموقف الحرج؛ فالأمر أصبح لا يَحتمل السكوت ولا المواقف السلبية، خاصةً من حكام المسلمين ومسئوليهم.
مواجهة الاستبداد
وقد اهتمَّ الإخوان بالحريات العامة والشخصية، ومواجهة الاستبداد والفساد على كافة الأصعدة والمستويات، وفي كل المجالات والميادين، واعتماد المنهج السلمي في الإصلاح والتغيير، وعبر القنوات الدستورية، وحق الشعوب في أن تعيش حرةً كريمةً أبيةً؛ تشارك في صنع الحياة وتقرير المصير، على اعتبار أن الأمة مصدر السلطات.
وقد أشعل الإمام البنا عاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق، آخذًا من هذه الآية: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾ (النساء)؛ عطفًا على هؤلاء الذين يعانون المحنة والفتنة في عقيدتهم وفي دينهم، واهتمام الحق- تبارك وتعالى- بالمستضعفين، الذين فقدوا حريتهم وأوذوا، يأمر الله عز وجل الأمة المؤمنة بالجهاد لإنقاذهم؛ تحريرًا لهم، ومن باب أولى تحرير الأوطان التي عدا عليها الباغون، وكان المركز العام للإخوان ملاذًا لمَن طاردتهم أوطانهم وبغت عليهم؛ يجدون فيه الأمن والأمان.
رؤيته للمشكلة الاقتصادية
قدَّم الإمام البنا عددًا من الأسس للنظام الاقتصادي، منها: أن المال الصالح هو قوام الحياة، والإسلام أوجب الحرص عليه وحسن تدبيره وتثميره، كما أشار إلى وجوب العمل والكسب على كل قادر؛ لأن الإسلام حثَّ على ذلك، كما تحدَّث الإمام عن ضرورة الكشف عن الثروات الطبيعية والاستفادة منها، كما أشار إلى تحريم الكسب الخبيث، فقال: "من تعاليم الإسلام تحريم موارد الكسب الخبيثة كالربا والقمار واليانصيب والسرقة والغش"، وأشار إلى ضرورة التقريب بين الطبقات وإلى احترام الملكيات الخاصة، كما أشار إلى تنظيم المعاملات المالية، واحترام العقود والالتزامات، وتكلَّم عن الضمان الاجتماعي فقال: "إن الإسلام قرر الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين راحته ومعيشته كائنًا من كان، ما دام مؤديًا لواجبه أو عاجزًا عن الأداء لسببٍ لا يستطيع أن يتغلَّب عليه، وأكَّد مسئولية الدولة في حماية النظام الاقتصادي وعن حسن التصرف في المال العام تأخذه بحقه، وتصرفه في حقه وتعدل في جبايته، وحذَّر من استغلال النفوذ، وتحدَّث عن لعن الراشي والمرتشي، وحرَّم الهدية على الحكام والأمراء".
التربية أساس البناء والتكوين
واهتمَّ الإمام البنا بالتربية اهتمامًا عظيمًا، فوضع لها من الوسائل والأساليب ما يؤدي إلى إعداد الفرد المسلم ليكون على الطريق الصحيح، نعم.. هو يعيش على الأرض، لكن قلبه موصول بالسماء؛ إذ بالتربية يصبح المسلمون أمناء أقوياء؛ تنفيذًا لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)﴾ (الجمعة).
لقد أحيا- رضي الله عنه- دار الأرقم، وما كان فيها من إعداد وتهذيب، وتخرَّج فيها أصحاب اليقين الثابت.
والتربية عند الإخوان هي الطريق الوحيد- أمس واليوم وغدًا- لبناء الرجال الأوفياء الأتقياء، كما هي الطريق الوحيد لإيجاد المسلم المجاهد، والحاكم الذي يحكم فيعدل، ويقول فيصدق، وكان الإمام يعلم أنها طريق طويلة شاقة كثيرة العقبات، ولا يصبر على تكاليفه إلا القليل من الرجال، لكنه الوحيد الموصِّل للهدف، ولا بديلَ عنه؛ ولأنه الطريق الذي سار عليه سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- فكوَّن وربَّى من قادوا الشعوب وربَّوا الأمم.
وتستطيع الأمة بالتربية أن تواجه شتى أنواع التحديات؛ ذلك لأن الشجرة الباسقة المحمَّلة بالثمار، المرتفعة في أجواز الفضاء لم تصل هذا المستوى إلا بعد أن ضربت بجذورها في التربة بمقدار هذا الطول فوق سطح الأرض، ولولا ذلك لما استطاعت أن تواجه الرياح والأعاصير الشديدة، ولولا هذه التربية لما استطاع الإخوان أن يواجهوا الصهاينة في فلسطين والإنجليز في القناة، وأن يواجهوا المحن والسجون والتعذيب والكروب التي مرَّت بهم.
لقد كان الإمام البنا- بحق- ملهَمًا حين حول جوانب الإسلام العظيم من نظريات في الكتب إلى واقع محسوس وملموس؛ فقد ظلت هذه الأصول في بطون الكتب طويلاً، ثم جاء الإمام البنا ليحدث هذه الصحوة الإسلامية المباركة في الإخوان المسلمين، والتي سرت إلى الشعوب وإلى الأمم، وانتقلت إلى مواقع كثيرة من العالم، والحمد لله رب العالمين.