التاريخ : الخميس 21 فبراير 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
إرادة الشعوب عندما تنتصر
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على محمدٍ بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
أسبوعٌ حافلٌ بالأحداث تصبُّ كلها في رصيدِ الشعوب عندما تقرِّر الانتقال من السكون إلى الحركة.. من الغفلة إلى اليقظة.. من الجبن إلى الشجاعة.. ومن الانقياد إلى التحرُّر.
إنه الأسبوع الذي قرَّرت فيه الشعوب أن تسيرَ نحو الاستقلال في "كوسوفا"، وصوب التغيير في "باكستان"، وصار على كل مستبدٍّ في عالمنا اليوم يظن أن قدرةَ الشعوب قد حاصرتها قوانين الاستبداد، وطوَّقتها جحافل الاستعباد، فارضةً عليها إقامةً جبريةً، نقول: صار على هذا الواهم أن يعيد مراجعة أمانيه التي تسوِّلها له نفسه، وساعتها سيتأكد أن الأيام دُوَل، وأن عجلة الزمان دوَّارة، وأن الأرض ﴿للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 128).
وصار على الشعوب أن تُعيد النظر في ترتيب أولويَّاتها، معتمدةً على أساسٍ متينٍ من الثقة في قدرتها على إحداث تغيير موضوعي في حياتها، بعيدًا عن الإحباط والاستسلام للعجز.
وأَوْلى الشعوب بالحركة صوب الحصول على حرياتها الشعوب الإسلامية؛ لا لشيء إلا لأن معايير الخيرية اختصها الله بها لتقود وتسود ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110)، ومن ثَمَّ وجب على أمتنا بكافة لبناتها الحركة لتبصير الإنسانية كلها بمكانتها؛ ليس تفضلاً ولا مَنًّا على بني الإنسان، بل واجبًا إسلاميًّا وأمانة ربانية ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72).
وأَوْلى الناس بالتحرك للانتصار لإرادة الشعوب الإنسان الرباني الذي ينسى نفسه في سبيل غايته، كابحًا جماح نفسه، ملجمًا عواطفها وميولها وأهوائها، محتسبًا ذلك لله عن رضا وقناعة وتضحية وتجرِّد تسمو به فوق كل عصبية أو جنس، أبيًّا لا يقبل بأن يسلبه محتلٌّ وطنَه كي يرتع فيه ويستبيح حرماته بأي مسوغٍ أو دعوى، كما أنه- الإنسان الرباني- عزيزٌ لا يرضى الذل في وطنٍ يقوده أذناب الآخرين وعملاؤهم، أو يحكمه فاسدٌ مفسدٌ يرى الشعب قطعانًا من الشياه يسيِّرها كيف شاء، ويرى بطانته سدنة معبده الذين لا يأمن جانبهم ولا يستغني عن صحبتهم.
فيا ولاة الأمر فينا..
قد تبدو الشعوب مستكينةً، وقد تبدو إرادتها مسلوبةً، وقدرتها على المعارضة تائهةً وسط ركام القمع وقوانين الاستبداد ولوائح الغلاء والجَوْر والإقصاء، ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها على واقعكم تقول: كم من مستبدٍّ عُمِّر؟! وكم من ديكتاتور خُلِّد؟! وكم ارتفعت أسوار السجون؟! وكم من أغلالٍ وأصفادٍ لم يعلوها الصدأ؟! وكم من محاكم تفتيش وطوارئ عُقدت؟! وكم من أحكام جَوْر نفِّذَت؟! وكم.. وكم.. وكم..؟.
كل هذا وأكثر هل يقيم حكمًا أو دولاً؟! وهل يبني حضارةً أو مدنيةً؟! وهل يقدر على صناعة الإنسان؟!.. وللإجابة فتِّشوا في كتب التاريخ وستجيبكم سطورها ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)﴾ (إبراهيم)، وإرادة الشعوب لا تنسى تاريخ الإنسانية المتصلة حلقاته، راسمةً من إرادة الشعوب مِعْولاً يكسر كل قيد.
فلا تغرَّنكم قوة المنعة وجبروت الجاه وباع الحليف وسطوته، وتفكَّروا في من سار على درب الاستبداد فيمن سبق ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ (فاطر: 44).
واعلموا أن التترس بالشعوب هو الخلاص من شراك التبعية، وأن الانقياد للحق هو السبيل إلى العزة والسؤدد، فافتحوا لشعوبكم بابَ الأمل بالتصالح معها والارتباط بها والنزول على رأيها، والعمل على تحقيق آمالها وطموحاتها.
ويا أحرارًا رغم القيود..
لئن كنَّا اليوم نحتفل بانتصار إرادة الإنسان في كوسوفا ونرقب ما يحدث في باكستان فإننا نرى في إخواننا المأسورين في مصر وفلسطين والعراق وغيرها علاماتِ حياة في عالمٍ ظنَّ الظالمون فيه أنهم أجهضوا كل علامات الحياة فيه واستتب لهم الأمر ولانت لهم قناة الشعوب.
غير أنكم يا جباه العز وشامات التضحية تصرخون بمحنتكم في ضمير الإنسان ليستيقظ، وترسمون على جبهة الحرية شمسًا آتيةً لا محالة، ترتفعون على القيود والقضبان والسجَّان معلنين أن الأسْر لا يحصر فكرةً، وأن الزور لا يخنق ضوءًا، وأن الماضي لن يقتل غدنا.
إن الإخوان المسلمين وهم ينتظرون حكمًا عسكريًّا على إخوانهم، يفخرون بأن مَن بينهم من صار خطرًا على مستقبل الاستبداد، ومهددًا لعرش الباطل حتى احتار فيهم أربابه، فلم يجدوا إلا اللجوء لقوانين الاستبداد والطوارئ والاستثناء ليحاكموهم بتهمة الانتماء لهذا الوطن والإيمان بقدرات بنيه على العمل وامتلاك القدرة على الحلم بالتغيير نحو الأفضل.
فلتقر أعينكم أيها الإخوان في محبكسم؛ فلا الأحكام العسكرية عليكم بالسجن تُثبت عليكم تهمًا كسرقة الأقوات أو حرق أبرياء بالعشرات، أو إغراق أنفس بالمئات أو متاجرة بآثار أو عمالة، أو تخابر أو استغلال نفوذ، كما أن براءة المحكمة لن تنفيَ عنكم شرف السير على طريق الحق في سبيل رفعة الأوطان وتحرير إرادة الإنسان.
ولتكن هاماتكم المنتصبة رايات الغد الذي نحلم به جميعًا لأمتنا ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)﴾ (الروم)، ولتكن دمعات الزوجات والأمهات والأبناء على الفراق أول الغيث الذي يستحيل إعصارًا يعصف ببنيان الاستبداد.
وأنتم أيها الإخوان..
لقد قال الإمام الشهيد حسن البنا: "وسنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا، وسندعو الناس جميعًا إليها، وسنبذل كل شيء في سبيلها، فنحيا بها كرامًا أو نموت كرامًا، وسيكون شعارنا الدائم: الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
وبهذه الكلمات أختتم رسالتي وأقول لكل السائرين على درب هذه الدعوة: ليكن لكم في إخوانكم الذين في السجون والمعتقلات الحافز لأن تبذلوا من أوقاتكم وطاقاتكم وإبداعكم في العمل لهذا الدين ما تتحرَّك له أفئدة الناس معكم، مدافعين عن حريتهم وعن إرادتهم، غير يائسين من قدرتهم على الإصلاح، وغير مفرِّطين في حقوقهم، موقنين أن دولة الظلم ساعة، وأن دولة الحق إلى قيام الساعة ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ (البقرة: من الآية 165).
واصبروا وصابروا ورابطوا، ولا يتسرب إلى نفوسكم يأسٌ يسعى الظلمة للانتصار به عليكم، واجعلوا من صلتكم بربكم الزادَ الذي يعين على الصبر حتى يأذن الله ويرى من مقومات نفوسنا ما تنتصر به إرادة الإصلاح ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5) ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.