التاريخ : الخميس 13 مارس 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
نحن مع الحق.. والأيام دول
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
فهنالك في مكة؛ البلد الحرام الآمن، وبين أبوين فقيرين إلا من الطهارة والنقاء، نَجَمَ طفلٌ لم يكن ليدري أحدٌ أن آمالَ الدنيا تعلَّقت به، وأن سعادةَ البشرية تتطلَّع إليه، وإذا كان في أهل الفراسة مَن رأى فيه من دلائل العظمة النفسية وقوة الخُلُق ما يعدُّه لعمل عظيم، فإن أحدًا من هؤلاء لم يستطِع أن يدرك أن هذا الطفل على إقلالِهِ سوف يطوي سلطان دولتَين عظميَيْن تحت لواء أمة بدوية، ليس لها نصيبٌ من علم، ولا حظٌّ من حضارة، إلا ما رسمه لها محمد صلى الله عليه وسلم من الطريق إلى الدنيا وإلى الدين معًا".
لقد حمل السلف العظيم هذا الدين الذي هو ميراث النبوة وأمانة الحياة بحقِّه، فوقعت المعجزة الكبرى، وأي معجزة أعظم وأروع من أميٍّ يعلِّم العلماء والحكماء، ويتيم يُسعِد الجماعات والأفراد، وعربي يحكم كسرى وقيصر، وفرد يصنع خير أمة أخرجت للناس.
لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمبدأ الأسمى الذي قلَب دولة الظلم، وأقام دولةً علَّمت الإنسانية لأول مرة مبادئ الحرية والإخاء، وألقَت عليها دروس المساواة والعدل والرحمة، وعلِمَ به الناسُ كيف يَحيَون سعداء، وكيف يموتون سعداء، وما لنا لا نرفع الرؤوس بين العالمين فخارًا ونقول: "إن محمدًا علَّمَنا الحرية فلن نستكين، وإن محمدًا علَّمَنا العزة فلن نُستعبَد بعد اليوم".
واعلموا أيها الإخوان أن المسلم الحر يأبى الضَّيم، ويرفض الذل، وأنه حين يهتف: "الله أكبر" لا يرضى لغير ربه عليه كبرياء، ولا لغير دينه فوقه سلطانًا واستعلاءً، ولن يصلح حال أمتنا الإسلامية إلا بما صلح به أولها: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: من الآية 21).
بأبي وأمي أنت يا رسول الله.. ما أروع سيرتك، وما أعظم بركتك؛ إنها المدرسة الإلهية لكل قائد وكل رئيس وكل سياسي وكل معلم وكل زوج وكل أب.. أنت المثل الإنساني الكامل لكل من أراد أن يقترب من الكمال في أروع صورِهِ؛ فالحمد لله الذي أنعم بك علينا أولاً، وعلى الإنسانية ثانيًا.
حاجتنا للتأسي بحياة رسول صلى الله عليه وسلم
إن المسلمين اليوم في حاجة شديدة إلى أن يذكروا محمدًا رسول الله، الذي احتمل الآلام، وصابر المشقات في سبيل بناء الإسلام، وإقامة صرحه الشامخ، وإن اقتداءهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك يقضي على اليأس الذي ملأ النفوس، والفساد المستشري في مجتمعاتهم، والظلم الذي عمَّ الأرجاء.
أيها المسلمون في كل العالم.. إذا جاز لكم أن تحتجُّوا بأعذار عن حمل هذا النور إلى الناس كما حمله أسلافكم، فلستم بمستطيعين أن تحتجُّوا؛ لعجزكم عن أن يكون الهدي المحمدي سبيلكم لحماية أنفسكم من بغي الباغين وإذلال الطامعين في استنزاف خيراتكم ونهب ثرواتكم.
الجهاد بالكلمة طريقنا في مواجهة الظالمين والمفسدين
يتساءل المسلمون: ماذا نعمل؟ وكيف نعمل؟
ألا فأشعِلوا في دمائكم جذوةَ الإيمان تنطلق الشرارة القدسية، التي متى تألَّقت أنارت لكم الطريق كله، ورأيتم بها الوسائل والأسباب رأي العين جميعًا.
وإنها لطريق واضحة؛ أساسُها الثبات على الحق، وزادُها الشجاعة في قول الحق، والقوةُ على مواجهة الظالم، والوقوفُ في وجه المفسدين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب.."، ثم يهيب بالكرامة الإسلامية، ويربأ بها أن تَذِلَّ أو تستكين لقوى الظلم والفساد، ويبرأ من تلك الأمة التي تفرِّط في هذه الأمانة، ويحُول الحرص والجبن بينها وبين أدائها؛ فيقول: "إذا استحيت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم".
بل إنه ليرتقي بروح التحدِّي في مواجهة الظالمين والمفسدين إلى أقصى مدى؛ حيث يرفع إلى درجة حمزة "الشهيد الأكبر" أيُّ فردٍ مسلم يجهر بالحق والرأي الحر أمام السلطان الجائر، فيضحِّي بروحه فداءً لرأيه الحر وعقيدته؛ فيقول: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"، ويجعل جهاد الرأي كجهاد السيف بل في أعلى درجاته فيقول: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
مشقات الطريق
واعلموا أيها المسلمون أن إحقاق الحق وإبطال الباطل يحتاج إلى صبر وثبات على الشدائد والصعاب، كما صبر أولو العزم من الرسل.. ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ...﴾ كما يحتاج إلى عدم الاستعجال ﴿... وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾ (الأحقاف).
ومن شدائد الطريق وعقباته ما بيَّنه الإمام البنا: "وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتُسجنون وتُعتقلون، وتُنقلون وتُشرَّدون، وتُصادَر مصالحكم، وتُعَطَّل أعمالكم، وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)"، وقد كان بل وزاد على ذلك القتل على أعواد المشانق، وفي غياهب السجون، ولله في ذلك حكمة ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)﴾ (آل عمران).
وكل ذلك لن يثنينا عن دعوتنا إلى الحق والتضحية بكل ما نملك؛ حتى يسعد الناس في حياتهم، ويأمنوا في بيوتهم، ويطمئنوا على مستقبلهم بعودة مظلَّة الإسلام؛ برحمته وعدله ومساواته، إلى حياة الناس كل الناس وإن اختلفت عقائدهم أو أجناسهم أو قومياتهم أو ألوانهم أو طبقاتهم، كما فعل الرسول الأكرم حين بنى دولة الإسلام الأولى بالمدينة.
ونقول للحكام وأعوانهم إن دوام الحال من المحال، وإن الأيام دول، وإن ليل الظالمين أَزِفَ على الرحيل، وإن صبح الإسلام يشرق على العالمين، وليعلموا أن السجن لا يُخيفنا، والموت لا يُثنينا عن طريقنا، وسوف نمضي إلى غايتنا حتى نجتثَّ جذور الفساد، ونستأصل شأفة الظلم، ويقينُنا أن الله لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي الظالمين، في المقابل فإنه يصلح عمل المتقين، ولا يضيع أجر المصلحين.
نور الرسالة المحمدية لن يخبو
لقد جعل الله في الكون شمسًا تُنير الكون المادي، ومحمد صلى الله عليه وسلم سراج منير للثقلين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾ (الأحزاب)، ونقول للذين يعبثون ويلعبون بالنار ممن يسيئون إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: مثلكم كمثل من يحسب أنه يستطيع أن يطفئ نور الشمس بنفخة ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ (الصف)، ومثلهم أيضًا كمثل صبيان ينثرون التراب في الفضاء يحسبون أنهم يحجبون ضوء الشمس، فتبقى الشمس ناصعةَ الضوء بيضاءَ نقيةً، ويتراكم التراب على رؤوسهم، والخيبة والحسرة في قلوبهم.
وانتصارنا الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نزداد تمسكًا بهديه، واقتداءً بسنته، مع الاستمرار في المقاطعة.
بشائر النصر تلوح في الأفق
ونبشِّر الصامدين في وجه المفسدين والمجاهدين المقاومين للمحتلين الغاصبين، وفي مقدمتهم سجناء الرأي والفكر، والمعتقلون في مصر، والسجناء المجاهدون للغاصبين المحتلين في فلسطين والعراق وأفغانستان وجوانتانامو وغيرها.. نبشر هؤلاء بأن فجر الإسلام يبزغ، وبشائر النصر والتمكين للمستضعفين تترى، ونذُر الهزيمة والفشل للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة تتأكَّد يومًا بعد يوم، وتنحسر مع كل مواجهة للقلة المؤمنة الصابرة المحتسبة المحاصَرة في غزة، وأمام صمود المقاومة في لبنان، وفي العراق وأفغانستان والصومال والسودان.. ومع كل يوم يمر يزداد المؤمنون يقينًا بوعد الله ونصره، ويزداد أعداء الإسلام هزيمةً وحسرةً ﴿ِإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
أيها المسلمون.. إن الدنيا تدور بكم فلا تقفوا، وإن الدهر يجدُّ بكم فلا تلعبوا، وإن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم، إنكم ورثةُ الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحملة مشاعل النور والهداية الربانية للبشرية جمعاء، فأقيموه حيث أقامه الله دستورًا وإمامًا وتشريعًا ونظامًا.. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾ (الروم).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين