التاريخ : الخميس 12 يونيو 2008 . القسم : رسالة الأسبوع

راية السلام العالمي يحملها الإسلام


 

رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله؛ النبيِّ الأميِّ الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

 

نؤمن يقينًا أن الأيام دول، وأن دولة الظلم ساعة، وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، كما نرى في الخطر المحدق بالإنسانية كلها ما يهدد قدرتها على البقاء والتطور والارتقاء، ونستشعر بأن واجب الوقت يحتِّم على كل عاقل أن يتحرك لإيقاظ الإنسان من غفوته حتى لا يُجهِزَ عليه عدوُّه.

 

ومن ثم تكون وحدة الجنس الإنساني؛ المرتبطة بأصل الرؤية النبوية المتبلورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمهما بالآباء.. الناس لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" هي معيار الخلاص من هذا الواقع المرير؛ الذي جرَّد الإنسانية من معانيها، ليحوِّلَها إلى مادة مجردة تتناثر حول أشلائها قوانين الغاب التي تنتصر للأقوياء على حساب الضعفاء المقهورين.

 

كما يلزم الإنسانيةَ أن تعودَ إلى أصل نهضتها ودعامة قوتها الممتدة من كونهم أبناءً لآدم، وتحتِّم عليها هذه الوحدة التعاونَ والتسالمَ والتراحمَ والتوجيهَ، ومع هذا تكونُ الأفضليةُ للاجتهادِ في الفعل والانحيازِ للحقِّ والعدلِ والحريةِ لرقيِّ الإنسانيةِ، وهذا هو أصلُ نظرةِ الإسلامِ للإنسانيةِ، وهو كذلك ما يعتبره الإخوانُ المسلمون أساسًا لمشروعِ نهضةِ الإنسانِ في العصرِ الحديثِ.

 

إن الإخوان المسلمين يدعون اليوم كلَّ العالم إلى إعادةِ إعمالِ النظرِ في الرسالةِ الإسلاميةِ؛ للوقوفِ على دعائمِها؛ التي ترتقي بالبشر إلى علياءِ السماءِ، وتَحُول دونَ استهلاكهم طاقاتهم ومقدرات بيئتهم في صراعاتٍ تأتي على الأخضر واليابس ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)﴾ (البقرة).

 

كما يدعو الإخوان المسلمون كافةَ أصحابِ العقولِ إلى التفاعل مع دعوةِ اللهِ للبشرية كافةً؛ التي ساقها كتابُه الكريمُ؛ المتجاوزُ حدودَ التقسيمات الجغرافية والتحالفات القطرية، مخاطبًا كلَّ العالمين: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)﴾ (الفرقان)، ومستهدفًا وضْعَ أساسٍ روحيٍّ وعمليٍّ للوحدة العالمية؛ عبر قوله جل في علاه: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم: من الآية 1)، وساعةَ يقفُ العقلُ البشريُّ على حقيقةِ هذه الدعوة؛ يكون قد أدرك أنها دعوة تسعى لصياغة وحدة رايتها بالسلام العالمي؛ الذي يحمل النور لكافة البشر، بعيدًا عن محرقة المادية التي تأتي على الأخضر واليابس؛ بدعوى فرض تطوُّرِها على الشعوب البائسة، وحمايتِها من مقاصل الذلِّ والقهرِ.

 

ولقد استحالت الحضارةُ الحديثةُ واحدةً من أدوات الفتك بالإنسان، رغم زهوها بمفاتنها، وإخضاعها للعالم كله بعلومها، لكنها أمسَتْ تترنَّح أمام مطامعها، ليتحوَّل مشروعُها السياسيُّ إلى استبداد مقنَّع، وتتآكل مبادئها الاقتصادية بفعلِ أنينِ الجياعِ وموجاتِ الغلاء وبؤسِ البطالة.
أما قواعدها المجتمعية فتتهاوَى أعمدتُها بمعاول الإباحية الجنسية، وحرية المثلية الشاذَّة، وموجات المدّ التي تُثير الغرائز، ولا مجيرَ من كل هذا بعدما استحالت كلُّ منظمات العالم لعبةً في يد القوي؛ يطوِّع مؤتمراتها واجتماعاتها ومواثيقها ومعاهداتها حيثما أراد واشتهى.. يمنح لكي يأخذ الأضعاف، ويعطي ليسلب المقدّرات، ويحمي ليغتصب، وصار السؤال الذي يطرح نفسه على الواقع (ما المخرج؟!).

 

وتأتي الإجابة عبر صفحات التاريخ؛ التي تؤكد أن القيادة العالمية بين الشرق والغرب كانت تبادليةً بين الحضارات، إلى أن وصلت دفَّة القيادة للغرب؛ ليقود ويهيمن ويصل بالعالم إلى سيادة شريعة الغاب.

 

ويُحتِّم الواقع على الإنسانية أن تُعيد النظر في رسالات السماء؛ لتستظل بلواء الله تعالى وراية القرآن، في فضاء النفوس الخاوية؛ ليحييَها الإيمان بعد موات، ويوقظَها بعد سبات.. ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾ (الأنعام).

 

وساعتها تعرف الإنسانيةُ طريقَها نحوَ النور، متحرِّرةً من كل أغلال التبعية والانقياد ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾ (الأعراف)، مردِّدةً مع ربعي بن عامر قوله: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العبادَ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

 

ويا أمة الإسلام

لئن كانت الظلمةُ حالكةً، والدروبُ في العتمة غارقةً، واليأسُ أسرعَ في التسلُّل إلى النفوس من الأمل، والظلم رايته تُواري راياتِ الحق؛ فإن بين ظهوركم الحق، وتحت ركام الواقع قلاع حضارتكم، فصِيغوا من قوة الحق، الذي به تؤمنون وإليه تستندون وبه تسيرون، ما يجعلكم في واقع الخيرية؛ التي أكد عليها سبحانه وتعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية110)، ساعين لنَيل مرتبة الأمة الشاهدة: ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج: من الآية 78).

 

واعلموا أن العالم حاليًّا أحوجُ ما يكون لأن تعرِضوا عليه بضاعتَكم الربانية، واثقين بنصر الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)؛ بشرط تحقيق معنى العبودية لله، مخلصين له، معلنين أن راية هذا الدين هي العدل.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ (المائدة: من الآية 8)، والكل أمام ميزان الإسلام سواءٌ؛ لأنه يرى في كل رسالات السماء إلى الأرض أن كل بني آدم أمام ميزان الحق سواءٌ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25).

 

وليكن فعلُ الخير في كافة مجالات الحياة هو نموذجَ الإنسانية في البناء؛ الذي يعمر بفنون الحياة، ممتثلين في ذلك كلِّه دستورَ الحياة المبشِّر بالفلاح.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾ (الحج)، ومجالاتُ الخير هي بابُ الفعل الذي يفرض واجبُ الوقتِ طرقَه؛ لأن من سار على الدرب وصل، وإن كان المنهجُ ربانيًّا بغير سعيٍ فلن ينالَ أتباعُه إلا الحسرةَ والتخلفَ والتبعيةَ والانكسارَ؛ لأن سموَّ المنهج لا تُنالُ ثمارُه بالأماني ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)﴾ (النساء).

 

وأنتم أيها الإخوان

عندما يطالب اليوم الإخوان المسلمون كلَّ العالم أن يُعيد النظرَ إلى الإسلام، ووضعه في ميزان العقل، ليتأكد من امتلاكه مقوِّمات خلاص الإنسانية.. فعلى أبناء دعوتنا أن يكونوا طليعةَ الخلق في عرض الإسلام، طالما ارتضَوا عهدَهم مع الله، هاتفين له ليلَ نهارَ بالثناء ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ (الأعراف: من الآية 43)، وساعين للهرب من ساحة من يستبدل الله بهم.. يوم ﴿يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (المائدة: من الآية 54)، مستشعرين معنى الربانية التي تنطلق من حقيقِ الإيمان بالله غايةً، ترفع من ينتسب إليها، وتعزُّ من يوقن بها.

 

فكونوا أيها الإخوان طليعةَ أقوامكم في الدعوة للنظر إلى الإسلام كمنهج حياة؛ تجسِّده منكم الأفعال قبل الأقوال، وهذا لن يتأتى وربِّي إلا بالعمل الدءوب في ميادين الحياة الرحبة؛ جهادًا في ساح العالم والتخطيط والتنمية والعمران، وليكن العمل الجادّ شعار مرحلة تعلن فيها طليعةُ الأمة الإسلامية عن ميلاد الطبيب الذي سيداوي جراح البشرية بدوائها المحمدي ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: من الآية 158).

 

ولا تطلبوا الأمرَ من غيرِكم فعلاً ومنكم قولاً، بل كونوا أول الفاعلين عبادةً وقدوةً، وإيمانًا بـ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ (الكهف: من الآية 30)، وقاوِموا ثقافة اليأس بيقين المؤمنين وثبات المرابطين، واجعلوا الإسلام ثقافةَ حياةٍ للبشرية، يحكم حياتَكم عبرَ عقول واعية وقلوب مطمئنة وأبدان طاهرة، ومع هذا كله ثقة بوعد الله الحق.. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)﴾ (الفتح)، وما بعد هذا الوعد من قول إلا التواصي بالثبات على الحق والصبر عليه ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق: من الآية 3).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.