التاريخ : الخميس 26 يونيو 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
الأمة.. بين التحديات والواجبات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد.. لم تمر الأُمَّة عبر تاريخها الطويل بمحنة مثل المحنة التي تواجهها في هذه المرحلة العصيبة من التَّاريخ الإنسانيِّ؛ حيث انفردت قوَّةٌ واحدةٌ غاشمةٌ بمصير العالم؛ تتحكَّم فيه وتوجِّهه؛ تبعًا لمفردات مشروعها الإحلالي التَّوسعيُّ البغيض، ولمصلحة أذنابها وحلفائها، وعلى رأسهم الكيان الصُّهيوني. وقد زادت حالة المحنةِ والأزمة التي تواجهها الأُمَّة مع حالة الضَّعفِ والفُرقة والتَّشرذُم التي تُعاني منها بلدانها، والتي أدَّت إليها في الأساس سيطرةُ أنظمة الاستبداد والدِّيكتاتوريَّة والفساد على زمام الأمور؛ تلك الأنظمة التي دأبت على قمع شعوبها، والانصياع لمصلحة القوى المُعادية للأُمَّة على حساب مصالحها ومتطلبات أمنها القومي. قد تكون هذه الحقائق معروفةً لنا جميعًا، لكن أهمِّيَّة هذا الكلام ترجع إلى أنَّ هذا الوقت قد باتت فيه الممارسات حقيقةً وواقعًا وليس مُجرَّدَ تهديدات؛ حيث الاحتلال الأنجلو ساكسوني الواضح والصَّريح؛ يهبط بطائراته، ويدبُّ بدبَّاباته على تراب العراق وأفغانستان، بينما شُذَّاذ الآفاقِ من الصَّهاينة لا يزالون في فلسطين والجولان ومزارع شبعا، والتَّهديدات تطال السُّودان وسوريا، وتعبث أيدي الإرهاب الأسود بمُقدَّرات شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة في باكستان والجزائر والمغرب، وغيرها من بلدان الأُمَّة. والآن ذات السِّيناريو الفاشل المُكرَّر يتم اصطناعه مع سوريا؛ حيث بدأت الوكالة الدَّوليَّة في تنفيذ ذات السِّيناريو الممقوت الذي تمَّ تنفيذه من قبل مع العراق؛ بدعوى امتلاكه أسلحةَ دمارٍ شاملٍ، والعجيب أنَّ المجتمع الدَّولي يتبنَّى منطقًا شديد التَّناقُض في هذا الأمر؛ حيث تجاوز تمامًا عن العدوان العسكريِّ الذي شنَّه الكيان الصُّهيوني على موقع الكبار بالقرب من دير الزور، لكنْ ما تحرَّك المجتمع الدوليِّ بالفعل لأجله هو تهديد سوريا بحجة سعيها إلى امتلاك أسلحةِ دمارٍ شاملٍ!!. وأخيرًا وليس آخرًا نطالع من ضمن ما تنشره وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة؛ من أنَّ الكيان الصُّهيوني الغاصب قد قام- في صلفٍ وغرورٍ وفي تبنٍّ واضحٍ لشريعة الغاب- بإجراء مناوراتٍ عسكريَّةٍ؛ بغرض توجيه ضربةٍ عسكريَّةٍ للمُنشآت النَّوويَّة الإيرانيَّة؛ بما يُنذر بتحويل المنطقة كلها إلى "كُرةٍ من الَّلهب"؛ على حدِّ تعبير البرادعي مدير عام الوكالة الدَّوليَّة للطَّاقةِ الذَّريَّة، فالتَّقديرات العسكريَّة والإستراتيجيَّة تُشير إلى أرقامٍ مُخيفةٍ في هذا الإطار؛ فبينما يحتاج سلاح الجوِّ الصُّهيوني لألف غارة لكي يُحقِّق أهدافه من وراء هذا العدوان؛ فإنَّ إيران سيكون في مقدورها إطلاق 11 ألف صاروخ في دقيقةٍ واحدةٍ من بَدءِ أيِّ هجومٍ ضدها! هذا بخلاف التداعيات الرهيبة لهذا العدوان- حال وقوعه- على المنطقةِ بأسرِها؛ سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا. وفي هذا الوقت العصيب تمرُّ المُقاومةُ المُسلَّحةُ الشَّريفةُ في فلسطين باختبارٍ هو الأصعب عليها طيلة تاريخها المجيد؛ الذي نحتت طريقها فيه بدماء الألوف من أبنائِها الشُّهداء، فضلاً عن الأسرى والمعتقلين الذين يلاقون أبشع صنوف التَّعذيب في المعتقلات الصُّهيونيَّة.. هذا الاختبار الصعب الذي تمرٌّ به المقاومة- رغم نجاحها في إجبار العدو على قبول خيار ميدانيٍّ صعب على نفسه ونجاحها في الاختبار السِّياسيِّ والاختبار الميدانيِّ؛ حيث حافظت للآن على ثوابتها- يكمُن في تخلي بعض بني الجلدة عن المقاومين الصَّامدين؛ بل ورميهم بادِّعاءات باطلة؛ بدلاً من القيام بالدور المنوط بهم تجاه فلسطين القضية والعقيدة. كما أنَّ الأُمَّة الآن تواجِه بدورها تحدِّيًا أخطر من ذي قبل.. تحدِّيًا يمسُّ حياتَها ذاتها؛ حيث التَّلاعُب الذي وصل إلى حدِّ المساس بلقمة العيش، والتَّلاعُب في أقوات الشُّعوب؛ فبدلاً من علاج مُشكلات المجاعة التي تضرب بطون وحياة أكثر من مليارٍ من البشر في مُختلف أنحاء العالم، وبالذَّات في القارة السمراء؛ المنكوبة بفُرْقَتِها وبإرث الاحتلال البغيض، وبدلاً من الالتفات إلى مُشكلة النقص الحادِّ في موارد الطَّاقة نجد أنَّ الولايات المُتَّحدة والغرب يُهدرون ثروات العالم من الغذاء والطَّاقة؛ فتارةً يتم إلقاء الفائض في مياه المحيط للحفاظ على أسعاره في الأسواق العالميَّة لخدمة المُنتجين المحلِّيِّين، وتارةً يتم إهدار القمح والذُّرة في إنتاج الوقود الحيوي؛ لمُجرَّد إشعار العرب بأنَّ بترولهم لم يعُد له قيمة، وأنَّه يُمكن الاستغناء عنهم، وذلك كله على حساب الغذاء اليومي لشعوب العالم الفقيرة. هذه الشُّعوب هي التي تتحمَّل أيضًا فاتورة الحرب الأمريكيَّة الغاشمة في العراق وأفغانستان وفي بقاع العالم المُختلفة، والتي تستهلك من ثروات العالم من النَّفط الكثير والكثير؛ بفعل السياسات الأمريكيَّة العدوانيَّة التَّوسُّعية؛ مما أدَّى إلى ارتفاع أسعاره بشكلٍ رهيب؛ مما سبَّب أزمة طاقة حقيقيَّة عطَّلت التَّنمية في مناطق العالم المُختلفة. وفي هذا الإطار وفي ظلِّ هذه الظُّروف والتحديات العصيبة التي تمرُّ بها الأُمَّة؛ فإنَّ الإخوان المسلمين يطالبون الأُمَّة بكلِّ فصائلها ومذاهبها؛ حُكَّامًا وشعوبًا، بالتَّوحُّد خلف راية الإسلام، وخلف المصالح العليا للأُمَّة، والاعتصام بحبل الله المتين، والالتزام بما أمر به، والانتهاء عمَّا نهى عنه، وتربية النفس والأمة على المبادئ والمُثُل العليا؛ التي ربَّى المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، ولنعلم أن قوتنا تكمُن في وحدتنا وتماسكنا وترفُّعنا عن الصغائر.. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)﴾ (آل عمران). فعلى الأمة جمعاء أن تُدرك ما يُحاك لها من مؤامراتٍ ودسائسَ من الصهاينة وأعوانهم للنَّيل من مقدَّراتها المختلفة، فلا يمكننا أن نغفُل عن أنَّ الأصابع الصهيونيةِ وراء كلِّ هذه الأحداثِ وتُحرِّكُها ولو من وراء ستار. إنَّ العبء الأكبر في الوضع الرَّاهن مُلقًى على عاتق الأنظمة قبل الشُّعوب؛ فالأنظمة الحاكمة هي التي تملك التَّحكُّم في عناصر قُوَّة الأُمَّة، وتملك السُّلطة اللازمة لفرض خطط الإصلاح ومواجهة التَّحديات جميعًا؛ فالحكَّام مُطالبون بدورهم بأنْ يعملوا أولاً على مصالحة شعوبهم، والاحتماء بهم، والتَّترُّس خلفهم لمواجهة الغرور الصُّهيوأمريكي، والعمل أيضًا على فك الحصار السِّياسيِّ الخانق الذي تفرضه على مختلف القوى الوطنيَّة الشَّريفة؛ حيث يجب إفساح المجال أمام القوى الفاعلة من أبناء الأُمَّة لكي تُخطِّط وتبني وتشارك في معارك الأُمَّةِ والأوطان. كما أنَّهم مُطالَبون بالحفاظ على ثروات الأمة، وعدم التَّفريط فيها، وحماية المُقدَّسات، وتوجيه الشُّعوب لما فيه صالح الأُمَّة، وإعداد العُدَّة، والأخذ بأسباب القُوَّة لحماية المصالح الإستراتيجيَّة.. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60). والشُّعوبُ مُطالَبَةٌ بالإخلاص والعمل الجادِّ المنتج لما فيه خير البلاد والأوطان، والوعي التام بحقوقها وواجباتها، وعدم التفريط في مقدَّراتها. كما أنَّ على الأمة إيلاءَ الشباب جُلَّ اهتمامها والعناية بهم؛ فهم عُدة الحاضر والمستقبل وحاملو رايتها، وكما قال الإمام البنا في رسالة (إلى الشباب): "ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أمةٍ عمادَ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سرَّ قوتها، وفي كلِّ فكرةٍ حاملَ رايتها". كما علينا ألا ننسى دعم المقاومين الصَّامدين في غزةَ بكلِّ الوسائلِ المتاحة، وليكن هذا هو جهد المُقلّ منا لهم؛ فلتنطلقْ إليهم قوافل الإغاثة المختلفة، ولَتُرفعْ الأيدي بالدعاء، ولتتوحَّدْ جهود المقاطعة لمنتجات العدو الصهيوني وأعوانه، وليتبنَّ كلٌّ منا توضيحَ الأبعاد الحقيقية للقضيةِ في جميع الأوساط والدوائر المحيطة به. وفي النهايةِ.. فهذه دعوةٌ منا للعودةِ إلى عناصر خيرية الأمة وتحقيقها واقعًا ملموسًا على الأرض.. هذا هو التَّحدِّي الأكبر الذي يواجهنا الآن؛ كيف تعود خيرُ أُمَّةٍ إلى قيادة مسيرةِ الحضارة الإنسانيَّة كما كانت!! ولن يتأتَّى ذلك- كما وضَّح لنا السميع العليم- إلا بالإيمان بالله تعالى والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكر، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).. والله أكبر ولله الحمد. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلِّم.. والحمد لله رب العالمين.
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين