التاريخ : الخميس 03 يوليو 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
عولمة الاستعباد وعز الإسلام للعباد
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
أيتها الإنسانية..
نعلم أنكِ تواجهين محنةً شديدةً، وأن خطرًا يحدق بكِ من كل جانب؛ عبْر فلسفة صياغة العالم الجديد تحت راية العولمة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية؛ ليستحيل العالم قريةً صغيرةً؛ عمدتُها سيدُ البيت الأبيض، وقبلتُها مصالحُ الساسة الأمريكان، ودينُها مسيحيةٌ صهيونيةٌ لا تنتمي لشرائع السماء، وإنما لأفكار عنصرية، وأهواء بشرية موغِلة في السادية، وعندما تسير الإنسانية في فلَك هذه العولمة الباطشة فإنها- ولا ريب- تسير صوبَ سرابِ الأماني ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ (النور: من الآية 39) فضلاً عن ضياع الأمن والأمان وفقدان العدل والسلام.
إن (الإخوان المسلمين) حين يخاطبون الإنسانية على اختلاف مشاربها وأعراقها؛ يدقُّون في ضمائرها الحية نواقيس الخطر، من عدوٍّ يتربص بإرادتها ليسخِّرَها له، ويكيد لعقولها ليفرغَها من كل توجُّه إلا نحوَه، ويستغلُّ كلَّ مقدَّراتها لتصبَّ في خزائنه، لتصبحَ المسيحية الصهيونية هي الحاكمة والمتحكمة، والسيدة المسيطرة، لا يروي ظمأها نفطٌ ولا دمٌ، ولا يُشبع نهمَها سلبُ وطنٍ وإبادةُ شعبٍ، بل تمتد أذرعُ عولمتِها الأخطبوطيةُ لترفع نجومها السداسية في سماء العالم والإنسانية، وهو ما لن يحدث طالما بقي في الإنسانية ضمير تحمله أرواح بني الإنسان، وعقول تعي استحالة الحياة في عالم الطغيان.
وبعيدًا عن ساحة التعصب لعرقٍ أو جنس، يفرض الوقت على إنسان القرن الحادي والعشرين أسئلة عدة:
* فأين من واقع الإنسانية مبادئ العدالة الاجتماعية التي تنادي بها سيدة العالم؟
* وأي مواثيق لمنظمات دولية أو أممية يتم إعمالها دون أن يكون لـ(الفيتو) الأمريكي حقُّ ليِّ عنقِ إرادة العالم؟
* وكم من مليارات دفعتها العولمة لتحارب الإرهاب المزعوم، مبيدةً في وجهها شعوبًا وحضاراتٍ، وسافكةً دماءً، ومنتهكةً أعراضًا!!
* وكم من هذه المليارات القاتلة كان من الممكن أن تقتات به الإنسانية وتبني حضارتها دون أن تحكم عليها العولمة بالعودة لعصور الغاب!!
* وهل حرية الإنسان في الاعتقاد التي تدَّعيها العولمة هي التي تفرض على بوش أن يعلن حربه على أفغانستان والعراق حربًا صليبيةً جديدةً باسم الرب؟!
* وما علاقة الحرية الشخصية بفوضى الأخلاق التي تبثُّها العولمة عبْر إعلامها الذي يتاجر بالغرائز عبر نخاسة بعض الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية؟
أسئلة حائرة غير أنها تنكأ جروحًا غائرةً في قلب الإنسانية؛ بفعل خناجر الصهيوأمريكية الغادرة، وما نكأ هذه الجراح بجريمة؛ لأن ألمه يوقظ باقي أعضاء البدن الإنساني ليداوي جراحه، ويستعد لمواجهة مغول جُدُد تضرب أحذيتهم الثقيلة كل معلم للإنسانية.
ويا أنظمة العالم..
حكَّامَ الأقطار في المشرق والمغرب.. إن (الإخوان المسلمين) يذكِّرونكم بأن فلسفة الاستعباد ودَّعتها الإنسانية يوم دفنْتها في صحف التاريخ؛ الذي أثبتت صفحاتُه أن الاحتلال بكل أشكاله وألوانه لم يكن في يومٍ من الأيام هو وسيلة البقاء.. لا لشيء إلا لأن إرادة الشعوب غالبة، وحرية الإنسان قاهرة، وما عادت تجدي قوانين الحديد والنار في التعاطي مع قضايا الإنسان المعاصر، ولن يولِّد القهر والذل إلا أممًا منتفضةً وشعوبًا ثائرةً وأجيالاً ساعيةً للثأر من الظالمين.
فلتعلموا أن سياسات الإقصاء لم تعُد هي السياسات المجدية في مبدأ التدافع الإنساني، كما أن أساليب المراوغة والمرونة السياسية المصطنعة في التواصل بين الشرق والغرب صارت من الأساليب المتحفية في التعاطي مع إنسانية بلغت رشدها وصار لزامًا على من يتعامل معها في ظل تطور علمي وتقني أن يحترم آدميتها، جاعلاً وسائله لذلك التواصلَ والتكاملَ والتعاونَ الصادقَ، المبنيَّ على التآخي والتقدير، وتبادل المنافع والمصالح المادية والأدبية بين أفراد الأسرة الإنسانية في الشرق والغرب، لا بين دول الغرب فقط، وبهذه السياسة وحدها يستقر النظام الجديد وينتشر في ظله الأمن والأمان والعدل والسلام.
و(الإخوان المسلمون) عندما يطالبون أنظمة العالم كله بهذا؛ فإنهم لا يقصدون به مصلحة الشرق وحده، وإنما صالح الإنسانية جمعاء؛ لأنهم يؤمنون بأن الأصل في الإنسانية التواصل؛ وفقًا لقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات) فإن شاءت نظم العالم أن تراجع موقفها من هذه السياسة فلتفعل، وإلا فإن النصيحة علينا واجبة، والدفاع عن حريتنا أوجب، والسعي لنيل حقوقنا فرض، لا يضيِّعه إلا مفرِّط، وحياة الذل والتبعية لا تولِّد شعوبًا قادرةً قدر ما تولِّد نفوسًا خائرةً.
فلتراجع نظم العالم نفسها لتعيد تقييم الإسلام بعيدًا عن نظرة العولمة المتربصة وساعتها ستجد:
* أن دعم الاستبداد في بلدان العالم الإسلامي لن يفرز استقرارًا قدر ما يولد نقمةً من الشعوب المقهورة ضد داعمي المستبدين على أراضيها.
* وأن الانحياز ضد كل مشروع إسلامي أو تجربة نهضوية لها مسحة إسلامية دونما دافع إلا مجاراة العولمة في عدائها للإسلام؛ لن يعود على الإنسانية إلا بالتخلف، وعلى أنظمة الغرب إلا بالعنصرية، وليسأل العالم شعوب ماليزيا وتركيا عن تجربة "أنور إبراهيم" المخنوقة بفعل التخوين، ومشروع العدالة والتنمية المحاصر بدعوى معاداة العلمنة، ولن تأتيه إلا إجابة واحدة: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17).
* وأن الوقوف في وجه حق الشعوب في مقاومة محتليها والدفاع عن أراضيها جريمة لا تضاهيها جريمة؛ فأي إنسانيةٍ تلك التي تحاصر غزة لأنها اختارت المقاومة منهجَ حياة في مواجهة مصاصي دماء لا يرقبون في آدمي إلاًّ ولا ذمةً؟ وأي شرعية تلك التي تقنِّن حصار الإنسان في غزة، ومنعه من أبسط حقوق الحياة إلا شرعية كفار قريش؛ الذين حاصروا أصحاب الفكر في شعب أبي طالب، فأكلت دابة الأرض شِرعتهم، وما أبقت منها إلا حقيقة الربانية التي تسمو بالإنسانية؟!
ويا أيها المسلمون عامةً.. والإخوان خاصةً..
قد يرى الواحد منا الصورة قاتمة، وسماء الغد بالظلمة معتمة، والأخطار بالأمة من كل صوبٍ قائمة، وهو ما يوهن العزائم، ويُقعد الهمم، ومن ثَم ترتفع الأصوات بأن لا أمل، وهذا وربي ما يريده لنا أعداء الإنسانية، وهو ذاته ما يريح قصَّابينا، فيسنون لنا ما شاءوا من نصالهم، ويتناوبون نحورنا واحدًا تلو آخر؛ هذا بنصلٍ عسكري، وثانٍ بنصلٍ اقتصادي، وثالثٍ بنصل ثقافي، وآخر بنصلٍ إباحي.
لكن الإخوان يرون أن أسلحتنا للمقاومة والإنقاذ بين أيدينا، وكل ما علينا هو إعمالها؛ ليس لنفتدي بها أنفسنا، بل ولنفتدي معها كل الإنسانية، ووسائلنا لإيقاظ الإنسانية نوجزها في:
* العزة في مواجهة الاستكبار؛ فالأمة التي يستبد بها الذل ويتحكَّم في روحها الانسحاق تبرَّأ منها قائدُ نهضتها محمد صلى الله عليه وسلم يوم قال: "مَن أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس مني".
* الحق في مواجهة الطغيان؛ فمن يعطِ لله عهده كل صلاة قائلاً: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾ (الفاتحة)، فإنه يتخلَّص من كل عهد لطاغية أو مستبد أو ديكتاتور، وصار عليه أن ينتقل بعهده من خانة القول إلى الفعل موقنًا بقوة ولائه للحق في المواجهة بينه وبين الطغيان ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18).
* العلم في مواجهة الجهل؛ فلا عماد لنهضة، ولا روح لبدن مقاوم، ولا زاد لساعد بناء بغير علم نتترَّس به النفوس وتعلو به الهمم ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: من الآية 9).
* الأمل في مواجهة اليأس، وإنما ينتصر الظالم والمتجبِّر والمستبد بإشاعة روح اليأس في صفوف الجماهير، مؤكدًا خلوده ومحاصرًا آمال الخلق بقضبان قمعه؛ غير أن المسلم لا يعترف باليأس لأنه قرين الكفر ﴿وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87).
فواجهوا عبودية العولمة بعز الإسلام؛ مرددين مع الفاروق عمر: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"، وحرروا الأمة من أصفاد الطغيان والاستبداد بسواعد الحق الفتية؛ المستقوية بعلمها، والمستعلية بقيمها، والقادرة بهمتها الربانية ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: من الآية 8) ، وليكن الأمل في الغد القادم والفجر القريب هو البسمة التي ترسمونها على وجه الإنسانية الذي شوَّهته مادية القرن الحادي والعشرين ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)﴾ (يوسف).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.