التاريخ : الخميس 17 يوليو 2008 . القسم : رسالة الأسبوع

السودان في مهب الريح



رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..

 

ففي سابقةٍ خطيرةٍ هي الأولى في عالمنا العربي والإسلامي؛ يَستصدرُ كبيرُ المدعين في المحكمة الجنائية الدولية أمرًا قضائيًّا باعتقال رئيسٍ عربيٍّ على رأس السلطة هو الرئيسُ عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم تطهير عرقي في دارفور، وهو أمر يدعو إلى العجبِ والدهشة، فإذا كان الرئيس البشير متهَمًا بالإجرام والتطهير العرقي فبماذا يُمكن أن يُتَّهَم سدنةُ الإرهاب في العالم؛ أمثال "بوش" و"تشيني" و"رامسفيلد" الذين قتلوا الآلاف المؤلَّفة من المدنيين العزل في العراق وأفغانستان؟ ولماذا لم يوقف زعماء الصهاينة من أمثال "بيريز" و"باراك" و"أولمرت" الذين قتلوا وشرَّدوا الآلاف من الأطفال والنساء الأبرياء في الضفة وقطاع غزة؟!

 

لقد صدرت وثيقة الصليب الأحمر بإدانةٍ واضحةٍ لأمريكا على جرائم الحرب التي مارستها في "جوانتنامو"، واتهمت فيها "بوش" و"تشيني" باعتبارهما اللذيْن أصدرا أوامر التعذيب للمعتقلين هناك، فماذا فعلت محكمة الجنايات الدولية؟ لقد دفنت رأسها في الرمال كأنها لا ترى شيئًا.
إن التاريخَ يُعيدُ نفسه، ولكننا لا نتعلم من دروسه، فبالأمس كان صدام، واليوم يكون البشير، وغدًا لا ندري على من يأتي الدور، وسوف يكون الحبل على الجرار.

 

مخطط التقسيم

لقد دخل مخططُ تقسيمِ العالم العربي الذي وضعه المستشرقُ الإنجليزي "برنارد لويس" حيز التنفيذ في ثمانينيات القرن الماضي؛ حيث بدأ بالعراق واتهمه بحيازة الأسلحة النووية، ثم مقاطعته وحصاره، ثم ضربه وتقسيمه.

 

أما السودان فقد كانت البداية لانطلاق مخطط التقسيم في أغسطس 1994م في المؤتمر الإفريقي السابع الذي انعقد بكمبالا بأوغندا وبإدارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق للشئون الأفريقية "كوهين"، والذي عُرف باسم "وثيقة كمبالا"؛ حيث تم تقسيم السودان إلى أربع دويلات، دارفور (غرب) والبجا (شرق) وجنوب السودان أما الرابعة فهي دويلة الشمال العربية.

 

لقد بدأ مخطط فصل الجنوب السوداني منذ عام 2002م في اتفاقيات الإطار التي تمت في "ماساكوش" و"نيفاشا" بكينيا وتحت رعاية أمريكية أوروبية، والتي أعطت للجنوب ما لم يحلم به من السلطة والثروة، كما أعطتهم الفرصة الذهبية فيما عرف بحق تقرير المصير عن طريق الاستفتاء خلال فترة 6 سنوات؛ مما يكرِّس الانفصالَ التامَ للجنوبِ واستئثاره بالنفط والمياه في السودان.

 

ضرب الأمن القومي العربي والمصري

إن تقسيم السودان يعني تفتيتَه وإضعافَهُ كقوة عربية، كما يعني حرمان العالم العربي من استثمار السودان "كسلة غذاء له".

 

أما بالنسبة لمصر فإن فصلَ الجنوب يعني التحكم في نهر النيل شريان الحياة في مصر؛ عن طريق تقليل حصة مصر من المياه، والضغط عليها وابتزازها، ومحاولة بيع المياه لها، فقد عقدت عدة مؤتمرات في الشهور الماضية بسويسرا لتنفيذ ذلك المخطط وتقنين حصص المياه وتسعيرها تحت رعاية أمريكية وصهيونية.

 

وإذا كانت القضية الفلسطينية تمس الأمن القومي المصري من ناحية الشرق وتتقاطع مع صراع الأدوار في المنطقة مع العدو الصهيوني؛ فإن السودانَ هو القيمةُ الإستراتيجيةُ الكبرى لمصر؛ فهو الامتداد الطبيعي والعمق الجغرافي لها؛ حيث تتقاطع فيه اعتبارات الأمن والحياة، وربما لا يعلم الكثيرُ أن السودان هو البلد العربي الوحيد الذي وقَّع مع مصر اتفاقًا فريدًا لم تعرفه علاقة مصر مع أي من الدول العربية الأخرى، وهو "اتفاق السماح بازدواج الجنسية بين مصر والسودان" الموقَّع في 28/5/1977م، والذي يسمح لمواطني البلدين بالحصول على جنسية البلد الآخر مع الاحتفاظ بجنسيةِ بلده الأصلي ما لم يرغب في غير ذلك.

 

كما أن البلدين وقَّعا اتفاقًا أمنيًّا في 15/7/1976م يُشكَّل بموجبه مجلسٌ للدفاع المشترك وهيئةُ أركان، ومدته خمسة وعشرون عامًا يتجدد تلقائيًّا حتى الآن، وعلى عكس كل البلاد العربية تظل للسودان أهميته القصوى لمصر بحكم الجغرافيا كما بحكم التاريخ.

 

نداء من القلب

إننا نتوجه إلى الشعوب العربية والإسلامية.. بأن تنتبه لما يُحاكُ لها من مؤامرات، ونطالبها بإعلان رفضها عبر كل الوسائل السلمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ حيث باتت المؤامرة ظاهرةً للعيان، بعد أن تصاعدت وتيرة الالتفاف حول السودان لمحاولة تمزيقه والتحكم في ثرواته ونزع الهوية الإسلامية والعربية عنه.

 

وإلى مصر.. التي تراجع دورها في الفترة الأخيرة، وفقدت الكثير من نفوذها وتأثيرها في القارة الإفريقية أن تتحمَّل مسئوليتها وتتعامل مع هذا الوضع؛ باعتباره تهديدًا خطيرًا يمس أمنها القومي في الصميم.

 

وإلى الإخوة الأشقاء في السودان.. نقول لهم اعملوا على أن تكونوا صفًّا واحدًا، وأعيدوا بناء الشعب السوداني بجميع طوائفه إلى بوتقة الوطن، وأطفئوا نيران الفتنة والتشرذم والفرقة، وعودوا جميعًا إلى الحوار الأخوي بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية، واقطعوا الطريق على مخططات الأعداء المتربصين بكم.

 

وإلى الجامعة العربية.. ضرورة عقد اجتماع طارئ وعاجل للرؤساء والزعماء العرب؛ للوقوف خلف السودان وسيادته ووحدته.

 

وإلى المؤسسات الدولية.. كي تحترم قوانينها ومواثيقها والدور الذي أُنشئت من أجله بعيدًا عن هيمنة الإدارة الأمريكية وخدمة مخططاتها التي تستهدف ابتزاز السودان ومحاولة السيطرة على بتروله.

 

﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾  (محمد: من الآية 35)

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.