التاريخ : الخميس 24 يوليو 2008 . القسم : رسالة الأسبوع

الإسراء والمعراج.. عبر ودلالات (1- 2)


رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن سار على هديه وسلك طريقه إلى يوم الدين..

 

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).

 

أيها المسلمون..

أيها الناس أجمعون..

أيها الحكام والرؤساء أجمعون..

 

إن المسجد الأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين.. بُنِيَ على الأرض المبارك فيها للعالمين؛ أرض الأنبياء، ومهبط الرسالات، وأرض الجهاد والرباط إلى يوم الدين.

 

والمسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي تُشدُّ إليها الرحال؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".

 

والمسجد الأقصى بوابة السماء، وملتقى المرسلين؛ الذين عقدوا فيه أعظمَ مؤتمر بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج؛ حيث كانت البيعة التي تؤكد وفاء الأنبياء والرسل بالميثاق الذي أخذه الله عليهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: 81).

 

الإسراء يمنحنا الحق في فلسطين

وقد سبق في علم الله أن الصراعَ حول هذه البقعة المباركة من الأرض سيدور رحاه في قابل الزمن، وأن كل أمة ستدَّعي أحقيتَها بملكية هذه الأرض، وأحقيتَها في الاستيلاء والسيطرة عليها كعقيدة في دينهم؛ لأن نبيَّهم وَطِئ تلك الأرض بقدميه، والتاريخ شاهد ناطق بصحة ذلك.. ألا ترى إلى توالي الحروب الصليبية تترا للعودة إلى تلك الديار التي شهدت مولد المسيح!! وألا ترى تدفُّق شراذم بني صهيون ليقيموا دولتهم حول هيكل سليمان الموهوم، بينما المسلمون جميعًا والعرب خاصةً هم أصحاب هذه الأرض، ولا حقَّ لأحد سواهم فيها.

 

وإن الإسلام ليوجِب على المسلمين أن تكون هذه المنطقة تحت يد المسلمين وفي حوزتهم؛ حتى يكون طريق المسجد الأقصى آمنًا ومفتوحًا أمامهم، يشدُّوا الرحال إليه، ولا يصدَّهم عنه أحد، وإذا كان لهؤلاء في تلك الديار مقدساتٌ يعظِّمونها ويحجُّون إليها؛ فإن الإسلام يحترمها، ويحافظ عليها، وما صدَّهم عنها قديمًا ولا حديثًا، ولن يصدَّهم عنها مستقبلاً؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تعيش في كنفه بقية الأديان، دون إكراه لها على غير ما تعتقد، بل ويسمح لأصحابها بأداء شعائرهم.. أما غير الإسلام فإنه لا يرى إلا نفسه، ومن ثمَّ يسحق كل من عداه أو خالفه.

 

أستاذية العالم

وإن في إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنبياء في القدس في ليلة الإسراء إعلانًا لتسليم القيادة لهذه الأمة، وإذا كان أنبياؤهم قد اتبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم، وصلُّوا خلفه؛ فعلى أتباعهم- لو كانوا صادقين في إيمانهم بأنبيائهم واتباعهم لهم- أن يتبعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتموا به؛ لا سيما أن كتبهم التي بين أيديهم قد بشَّرت به كما جاء على لسان عيسى ابن مريم: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف: 6).

 

ولتعلم الدنيا وليسمع العالم أجمع أن البشرية سوف تعيش في أمن وأمان حين يظللُها الإسلام بعدله وحريته ومساواته ورحمته التي لم تفرِّق بين الناس بعقيدة أو جنس أو لون أو طبقة، وإنما الجميع أمامه سواء، ومن ثمَّ ينعم الجميع، وتهدأ الجنوب في المضاجع، وتجفُّ في العيون المدامع، ويتوقف سيل الدماء في الشوارع..

 

في المقابل نؤكد أن العالم لن يعرف الاستقرار ولا الأمن، طالما أن فلسطين لم ترجع إلى أهلها، وطالما بقيت قيادةُ العالم بيد تلك الحفنة التي تجرَّدت من الإنسانية ومن القيم والمثُل العليا، ولا تسعى إلا إلى مصلحة نفسها، وقلةٌ من هؤلاء هي التي تسعى لمصلحة شعبها ولو سحقت الشعوب الأخرى.

 

التفريط في القدس جرح للإيمان

إن فلسطين والقدس جزء من عقيدة أمة ما زالت تحيا رغم كل المعوقات والضربات، والقدس جزء من تاريخ الأمة الإسلامية التي ما زالت مرتبطةً بالعقيدة التي تسكن في الفؤاد؛ مما يجعل القدس في الأعماق محفورةً، وفي الشرايين تسري، وإن القدس جزءٌ من انتصارات الأمة، والانتصارات لن تتوقف بإذن الله.

 

وإذا كانت القدس حقًّا للمسلمين بنص كتاب الله؛ فإن التفريط فيها تفريطٌ في كتاب الله وحضارة الأمة وعقيدتها وتراثها، وإن التنازل عن أي جزء منها لليهود أو لغيرهم، بل إن مجرد الاعتراف بأي حق لغير المسلمين فيها ليس ملكًا لشخص أو جهة أو دولة بعد فتح المسلمين لها وإقرار الله لنا فيها، وإن فرض سلطان غير سلطان المسلمين على المدينة المقدَّسة يعدُّ في منطق الحق والخير والعدل والتاريخ إطفاءً لضوء الشمس في وضح النهار، وستبقى ثُلْمةً في عقيدة كل مسلم يرضى بالهوان، ولا يعمل على استرداد الحق المغتصب، وتحرير الوطن من رجس الاحتلال الصهيوني الغاشم، المدعوم من قوى البغي والاستبداد والظلم الأمريكي.

 

حقنا لن يعود عبر أروقة الأمم المتحدة

ليعلم المسلمون ويستيقن المؤمنون أن استرداد المقدَّسات، وصون الأعراض والدماء من أيدي بني صهيون، لن يتم عبر أروقة الأمم المتحدة، ولا عبر المفاوضات؛ فالصهاينة لا يعرفون غير أسلوب القوة، ولا يرجعون عن غيِّهم إلا إذا أُخذوا على أيديهم، ولن يكون ذلك إلا بجهاد مقدَّس، وتضحيات غالية.

 

ويوم أن يستيقنوا من أننا سنسلك هذا السبيل، ونرفع علَمَ الجهاد في سبيل الله، وسنتقدَّم إلى ميدان الجهاد، طمعًا في الاستشهاد وفي جنة عرضها السماوات والأرض، ويوم أن يتحقق ذلك فينا، ويعلم الصهاينة ومن يساندهم أننا نسلك السبيل الأقوم لاسترداد حقنا.. فإن الرعب سوف يدبُّ في قلوبهم، ويرجعون من حيث أتَوا، وتخلُص الأرض من رجسهم وشرورهم وفسادهم، ولا يبقى إلا أهل فلسطين الأصليون من مسلمين ومسيحيين ويهود؛ يظلِّلهم جميعًا عدلُ الإسلام ومساواتُه وحريةُ العقيدة.. ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).

 

القدس ألم وأمل

إن القدس هي مصدر الألم اليوم، لكنها معقد الأمل غدًا، وإن سقوط القدس في يد المحتلين يمثِّل أقسى آلام أمتنا العربية والإسلامية، ويمثِّل منتهى الهوان والضعف، ولكنه في الوقت نفسه طريق الأمل الواعد بتوحيد جهود الأمة؛ على طريق الإيمان بالله والجهاد في سبيله؛ ليكتب لها النصر المبين، وقد وعدنا الله بدخول المسجد الأقصى: ﴿وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوا تَتْبِيْرًا﴾ (الإسراء: من الآية 7) كما وعدنا بالنصر ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47).

 

هل من نخوة عربية وغضبة إسلامية

عجيبٌ أمرُ حصار المسلمين في شِعب أبي طالب؛ حيث لم يرضَ به بعضُ أشراف العرب ورجالُها أصحاب النخوة والمروءة؛ فكانوا يخرقون الحصار ويقدمون لأهليهم الطعام والثياب، بل تحرَّك أحدهم محرِّضًا أصحاب الرجولة والحمية العربية مع أنهم لم يسلموا لكي يبطلوا صحيفة الحصار.. فهل يرتقي زعماء العالم المتمدِّن إلى ما كان عليه العربي قبل الإسلام؟! وهل نسمع من زعماء المسلمين وزعماء العالم الحر من يعلن خروجه على حصار أهلينا في غزة ويتقدم إليهم بالزاد والدواء والكساء والوقود ويساندهم لاسترداد حقهم من الغاصبين؟!

 

من الحصار إلى الإسراء

ومن الإسراء نأخذ درسًا مهمًّا يدفع إلى الثبات ويبعث الأمل في إخواننا في فلسطين؛ فالتاريخ يُعيد نفسه؛ فحين يئس المشركون من أن يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن دينهم، وعجزوا عن ردِّهم إلى كفرهم، فكَّروا في حصار المسلمين، والذي أعقبه أن فتحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الآفاق، فذهب إلى القدس، وصعد إلى السماء، ولم تمضِ بضع سنوات حتى غدت للإسلام دولةٌ مرهوبةُ الجانب، مسموعةُ الكلمة.. ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ (يوسف: من الآية 110).

 

إن في ذلك دعوة لإخواننا في فلسطين بالصبر والثبات على آلام الحصار، وإن طال أمده لكنه في النهاية دحرٌ للصهاينة وأمريكا، ومن يسارعون فيهم خشية أن تصيبهم دائرة أو تحلُّ بهم نازلة، كما أنه بشرى بأن صحائف الحصار سوف يمزِّقها الله بقدرته، ثم بثباتكم وجهادكم، وسوف يتحقَّق نصر الله الموعود، والتمكين للدين المشروط بعبودية لله لا تشرك معه أحدًا: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

 

إن المسلمين اليوم في حاجة إلى العود الحميد والسريع إلى الإيمان الصادق، كما أنهم في حاجة ماسَّة إلى نبذ الخلاف والشقاق، والتآلف فيما بينهم والتمسك بكتاب ربهم، والتعرف على أعدائهم من خلاله، ورسم خطط المواجهة مع عدوهم؛ انطلاقًا من ثوابت الإيمان ونواميس النصر التي لا تتغيَّر ولا تتبدل، ولنا عودٌ إلى ذلك في الرسالة القادمة إن شاء الله، والله أكبر ولله الحمد.. والحمد لله رب العالمين.