التاريخ : الخميس 07 أغسطس 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
مسئولية الأمة تجاه النهضة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيدنا ونبينا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، ورضي الله عن صحابته الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
أيها المصريون..
مما لا شك فيه أن أوضاعنا الراهنة تؤرِّق كل غيور على وطنه، وتثقل كاهله بأمانة إيقاظ روح الإيجابية في أبناء شعبنا؛ الذي له من الحضارة ما يؤهِّله للقيام بمسئولياته تجاه عقيدته ووطنه وأمته؛ فالشعب المصري عريق في تاريخه المتجذِّر في عمق التاريخ، وثري بوسطية جغرافيته على خريطة العالم، وحافل ببطولات أبنائه.
كتب الله للشعب المصري أن يكون على خط المواجهة دومًا، وأن يصيغ بإرادته صفحاتٍ مشرقةً من جهاد أمته العربية والإسلامية، ومن ثم كان مستهدفًا من كل قوى الاستبداد على مر التاريخ، وكانت المواجهة بالجهاد عنوانه دومًا؛ فبمصر انكسرت شوكة التتار، واندحرت فلول الصليبية المستعمرة لأرض العروبة والإسلام، وتهاوت أحلام الإمبراطورية البريطانية في التمدُّد، وهكذا كانت إرادة الله أن تبقى مصر دومًا في رباط حاملةً مشاعل الحرية.
غير أن روح الاستعباد المتربصة بأوطاننا وببني أمتنا، تعي جيدًا قدرات شعبنا، وتدرك أن مكامن القوة وعوامل النهضة فيه باقية، ومن ثم فلا بد من حصارها وشغلها، والسعي بشتى الطرق إلى تشتيت قواها؛ لأن مصر يوم تنهض فستملك البداية، ومن امتلك البداية امتلك الطريق.
وأي سلاح أمضى في تحقيق هذا المخطط من الاستبداد الذي يعمل على حصار الإرادة وتشتيت الجهد وتفريق الصفوف وإشاعة الخوف وقتل الهمم وإضعاف العزائم؟ ثم إن الاستبداد يتجاوز ذلك إلى تهديد المستقبل؛ بسعيه الحثيث إلى سرقته، عبر إفساد متعمَّد لمقدَّرات الوطن، وحماية قانونية ودستورية لكل مفسد ومبدِّد لموارد الوطن ومهدر لثرواته، فضلاً عن تعطيل الطاقات وإفشاء روح الانهزام واليأس في النفوس؛ حتى تستحيل الأوطان مشاعًا لمعاول الهدم والتخريب بتغييب المبدعين وأصحاب العلم النافع والرأي السديد، وإعلاء رموز السفاهة والإسفاف لتهجر العقول المبدعة أوطانها ويسكنها بائعو الوهم وجماعات التملق والنفاق الاجتماعي، وهذه كلها عوامل بقاء الاستبداد وضمانة استمرارية سدنته.
إن أي نظام يجب أن يرتكز على إجلال الدستور الذي ارتضاه الشعب بإرادته الحرة، واحترام القانون الذي سنَّه مجلس منتخب بطريقة نزيهة وشفافة، وتنفيذ أحكام القضاء المستقل، فضلاً عن مسئولية الحاكم والعمل على وحدة الأمة واحترام إرادتها.
هذه الأسس كانت وستظل هي معايير النهضة عبر التاريخ، أَما قال عمر بن الخطاب مستشعرًا عظم التبعة الملقاة عليه "لو أن جملاً هلك ضياعًا بشط الفرات؛ لخشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب"، وهو ذات الإحساس بالمسئولية الذي صاغه عمر بن عبد العزيز بقوله: "إنه ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحدٌ إلا له قبلي حقٌّ يحقُّ عليَّ أداؤه إليه، غير كاتب إليَّ فيه ولا طالبه مني"، وهذا الأساس في إدارة الحكم هو ما يوحِّد الأمة والوطن ضد كل محاولات الاختراق والتفرقة والتشتُّت؛ التي هي سلاح العدو في مواجهتنا، ولن تكون الأمة في عزة إلا إذا احتُرِمت إرادتُها عبر صوتٍ حرٍّ مسموعٍ؛ ينصح لله ولرسوله ولعامة المؤمنين وخاصتهم، والحاكم ملتزم بالانقياد لرأي الأمة (الشعب) وفق التوصية الربانية المقترنة بالإيمان وإقامة الشعائر ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى: 38).
فيا أمتنا: شعبنا المصري.. وشعوب أمتنا العربية والإسلامية..
إن واجب الوقت يحتِّم عليكم أن تنهضوا، وألا تستسلموا لروح اليأس التي يبثُّها الاستبداد في رُوعكم، وألا تفقدوا قدرتكم على الحلم بغَدٍ أعدَّه الله لكل عاملٍ ساعٍ لامتلاك زمام المبادرة؛ عبر إيجابية تجعل من أحلام اليوم حقائقَ الغد القادم لا محالة، طالما كانت الأسباب متحققة.
فلتكن صفحات التاريخ هي زادَكم في تجاوز حالة الإحباط واليأس من القدرة على التغيير والمواجهة، فيوم امتلك الشعب المصري إرادةَ المواجهة والتفَّ حول علمائه بقيادة العز بن عبد السلام دَحَر جيوش المغول التي عاثت في الأرض فسادًا، ومن بعدها فلول الاستعمار الفرنسي، ومثله كان النموذج الليبي الذي استطاعت إرادته أن تصهر آلة الاستعمار الإيطالية، وعلى الدرب سارت شعوب المغرب العربي ودول الشام حين واجهت القوى الفرنسية بإرادة خالصة وإيمان راسخ، وغيرها من نماذج المقاومة كثير في عالمنا الإسلامي.
ليكن الإيمان هو درع المواجهة ضد محاولات بثِّ روح اليأس والقنوط ﴿وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87).
واعلموا أن الإسلام دين عزة، ولا عزَّ لمسلم يرضى بالدنيَّة والدَّعَة، ولا بقاءَ لمستبدٍّ في ساحة النفوس العامرة بالإسلام، فاعملوا على تعزيز ارتباط نفوسكم بدين الله لتخرجوها من أسْر الاستبداد إلى حرية الإسلام.
واجعلوا من صلتكم بالله بداية التغيير؛ استجابةً لسؤاله جل في علاه ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ﴾ (الحديد: من الآية 16)، وساعتها ترتفع في النفوس قيم التحرر؛ فتكون الشجاعة أصلاً للجهر بالحق ومواجهة الطغيان، وتصبح نجدة المظلوم عبادةً يَتقرب بها كلُّ مسلم لله، ويصير الإقدام لبناء المجتمع الحر القائم على أسس المساواة هو الوسيلةَ الصحيحةَ لتحقيق الهدف المنشود.
ولا يحسبن أحدٌ أن طريق التغيير سهل ميسور، أو أن قوى الاستبداد في الداخل والخارج سوف تسلِّم القياد طواعيةً، ومن يظن ذلك فهو واهمٌ متواكلٌ؛ فالحرية لا تُوهب، والسماء لا تمطر ديمقراطيةً على شعوب خاضعة تراخت في حقوقها، وفرَّطت في واجباتها، وإنما يجب على الشعوب أن تعِيَ أن قدرتها على الحياة الحرة الكريمة مرهونةٌ بإيمانها بحقِّها في ذلك، وأن مواتها في عصر الاستبداد نتاجُ تفريط في إيمانها بباريها الذي قرَن الإيمان به بمعنى الحياة ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام- 122).
ومن أسمى مراتب الإيمان الوقوف في وجه الاستبداد، والجهر بالحق في وجه الظلم، ونُصْح السلطان الجائر؛ كما قال قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"، فلتكن الكلمة الحرة القوية الصادقة وإرادة الإصلاح هي سلاح الشعوب الذي تقاوم به عوامل الاستبداد والفساد.
وللإخوان كلمة..
إن كنتم أيها الإخوان بعقيدتكم مستمسكين، ولتعاليم دينكم راعين، ولدينكم تعملون، وعلى درب الفداء والتضحية تسيرون؛ فكونوا لأنفسكم بالمرصاد، حاسبوها وراجعوها وقوِّموها، واجعلوا صلتكم بربكم هي زاد السير ودافع الحركة، عليكم بصلواتكم على وقتها، وركعات الليل تهوِّن مشقة الطريق، وأوراد الذكر والاستغفار والدعاء تُضيء عتَمةَ الدرب، ورقائق الأعمال تُحيي موات القلوب، وتذكروا دومًا أن قدرتكم على الإصلاح نابعةٌ من عمق علاقتكم بربكم، وكونوا هؤلاء الرجال الذين قال الله فيهم ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (النور: 37، 38).. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.