التاريخ : الخميس 25 سبتمبر 2008 . القسم : رسالة الأسبوع

ومن رمضان تنطلق مقومات حياة الأمة ويتحقق النصر


رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد..

فقد مضت أيام رمضان وانتهت لياليه، وأشرقت النفوس بنور القرآن العظيم، وسمت الأرواح بالصيام والقيام، وحق علينا أن تكون لنا وقفةٌ مع النفس لنرى ما اقتطفناه من ثمار رمضان الطيبة المباركة.

 

ويأتي في مقدمتها سمو الروح على الجسد، وتعميق جذور الإيمان، وتحقيق معنى التقوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة)، ولفيض خيرات رمضان نتمنى أن تكون السنة كلها رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وقد أهلَّ رمضان: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنَّت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها".

 

الصيام والمراقبة لله

إن الصيام يربي في المسلم المراقبة الدائمة لله، وقيام الليل يقوِّي صلته بالله، وتلاوة القرآن تزيده إيمانًا، وهذا بدوره ينعكس على جميع جوانب حياته وما يقوم به من أعمال، فيحدث ذلك تغييرًا في الفرد والأسرة، فيكون عضوًا فعَّالاً إيجابيًّا في بناء الأمة، ولبنةً صالحةً لتحقيق الإصلاح المنشود، والتخلص من المفسدين والظالمين الذين يعيثون في الأرض فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمةً.

 

إن الأعداء يعمدون بكل الوسائل إلى إذلال المسلم وإخضاعه لما يملَى عليهم من مخططاتهم، وقبول الدنية في دينه ودنياه، ومنها الحصار، ولكن المسلم الذي قهر نفسه، وسيطر على أهوائه وشهواته، وصبر على الجوع والحرمان، خليقٌ بالصبر على الحصار، وجديرٌ بأن لا يركع إلا لله، ولا يخضع لأحد سواه.

 

رمضان يكشف جوهر الإيمان

في رمضان تمتلئ المساجد، وتكثر صفوف المصلين في العشاء والقيام وصلاة الفجر، وفي هذا مؤشر قوي على أصالة الإيمان في الشعوب العربية والإسلامية، وأنه مخبوءٌ في أعماقها، ومتغلغل في قلوبها، وممزوجٌ بدمها ولحمها، وأنه يعلن عن نفسه حين تواتيه الفرصة الطبيعية لتغذية أشواقه الإيمانية بالعبادة دون مساءلة من السلطات الظالمة، أو مراقبة من العيون التي تتربَّص به الدوائر، ودون خشيته من النظم الجائرة التي تطلق العنان لكل مفسد، وتضيِّق الخناق على الشرفاء الأطهار المصلحين، ولسان حالهم يقول: ﴿أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 82).. إن سلاح الخوف والترهيب يجعل الإيمان في حالة كمون، ويأبى إلا أن يعلن عن نفسه حين يشعر بالأمن ويرفع عنه الخوف.

 

هذا الإيمان الذي تجدد وأعلن عن نفسه؛ يجب أن يظل حيًّا في نفوسها، متَّقدًا في قلبها، يمنحها الزاد، ويمدها بالقوة التي تجعلها تواصل العمل الجاد للإمساك بكل ما من شأنه يحقق الرفعة والتقدم والازدهار للأمة الإسلامية.

 

ومن دافع حبنا لديننا وقومنا ننادي وبأعلى صوت أن تخمد هذه المعركة الدامية المصطنعة وغير الطبيعية، بين الشعوب والجماهير المسلمة من جهة، وبين الحكومات العربية والإسلامية من جهة أخرى؛ فالحكومات تأخذ مسارًا لا يتفق ودينها، والشعوب تحافظ على وجهتها الإسلامية، وتأبى إلا أن تظل متمسكةً بعقيدتها، ولم تنجح الحكومات في جرِّ هذه الشعوب المسلمة إلى الابتعاد عن جادَّة الإسلام، كما أنها حتى الآن لم تقتنع باستخدام الطاقة الهائلة الكامنة في نفوس الجماهير المسلمة وهي قوة الإيمان، ونحن نرى أن إخماد هذه المعركة لن يتحقق إلا حين يُخلص الحكام لربهم، ويسيروا في فلك الإيمان مع شعوبهم، وبذلك تنصرف كل الجهود والطاقات إلى استخدام هذه القوة التي لا يزال المسلمون يملكونها: قوة الإيمان، وقوة الفداء والوفاء للإسلام، وبذل النفس والنفيس لله تبارك وتعالى؛ لطرد الغاصبين المحتلين، واسترداد أرضهم المغصوبة، وحقوقهم المسلوبة، بل والوصول إلى قيادة العالم والمشاركة في صنع القرار.

 

كتاب الله أساس الإصلاح

إن من واجب المسلمين أن تظل صلتهم بكتاب الله وطيدةً، بالتعبُّد بقراءته، وجعله مصدرًا لأحكام الدين وشرائعه، وأساسًا لأحكام الدنيا.. منه تستمد.. وعلى مواده الحكيمة تطبّق.. وأن يمنحهم زادًا على طريق العود الحميد لمنهج الله بالتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وأن يحلّ حلاله، ويحرم حرامه، وحينئذٍ ينعم المجتمع بالأمن المفقود والإصلاح المنشود.

 

يا مسلمي العالم اتحدوا

وفي شهر رمضان توحَّد المسلمون في كل بلد في بدء الصوم والإفطار، كما تراصَّت الصفوف، واتحدت القلوب في وجهتها ومناجاتها لله الواحد الأحد، وإننا لنهيب بها أن تقف صفًّا واحدًا في مواجهة الطغيان العالمي، ومن يعملون لحسابهم في بلادنا؛ لأن الوحدة هي السبيل القويم لعودة أرضنا ومقدساتنا من المحتلين الغاصبين في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان والصومال وغيرها..

 

كما نهيب بهم أن يوحِّدوا وجهتهم نحو ربهم القوي القاهر؛ فهو القادر على أن يمدهم بكل ما يحقق لهم النصر والغلبة على الأعداء، وليعلموا أن الارتماء على أعتاب المعتدين لن يزيدهم إلا ذلةً ومهانةً، وأن موائد المفاوضات لم ولن تردَّ الحقوق المسلوبة، بل على العكس تعمل تلك المفاوضات على أن تمكن للغاصب وتعطيه شرعيةً، وتريد من صاحب الحق أن يقر لهم بذلك، ويطلبون من العرب المسلمين التنازل عن المقدسات، والتطبيع مع المحتل، والوقوف إلى جانبهم للقضاء على المقاومة المشروعة.

 

النصر آتٍ ووعد الله حق

لقد كان شهر رمضان دائمًا شهر الانتصارات العظيمة؛ ففيه فرَّق الله بين الحق والباطل في موقعة بدر، وفيه استردَّ صلاح الدين بيت المقدس، وفيه كلَّل الله جهاد المسلمين، وتم النصر على اليهود على أرض سيناء في العاشر من رمضان.

 

ويملؤنا الأمل، ويحدونا الرجاء في رحمات الله؛ تتنزل علينا، وتجدِّد فينا العزم على مواجهة هذه الهجمة الصهيونية الشرسة، بقلوب تجرَّدت من كل هوى، وتواصلنا مع الله، وسوف يتحقق النصر بإذن الله، ويومئذ يفرح المؤمنون.

 

وليعلم الكيان الصهيوني أنه لا الجدار ولا الحصون سوف تحميهم من غضب الله وهبة المقاومة وجسارة المؤمنين.

 

تهنئة

ومع إقبال عيد الفطر المبارك؛ نتقدم بالتهنئة الخالصة لإخواننا في السجون والمعتقلات في البلاد الإسلامية والعربية، بل وفي كل بلاد العالم في سجون الاحتلال في فلسطين وفي العراق، وفي جوانتنامو وفي مصر وباكستان والصومال وغيرها..، ونقول لهم: صبرًا على السجون وما فيها من عنت وأذى؛ فهي سبيلنا إلى تحقيق غايتنا، واعلموا أن الظلَمة قد يئسوا وأيقنوا أن السجون تزيدكم قوةً وصلابةً واستمساكًا بالحق، وتمدّكم بأعوان ومساندين من أحرار العالم وشرفائه، وصار الجميع ينادي بوقف هذه المهازل، التي لن تطيل في عمر الباطل، ولن تقدر على إسكات صوت الحق، ولن تمنع نور الإسلام من أن يشرق على العالمين برحمته وعدالته ومساواته بين البشر جميعًا.

 

كما نهنئ آباء وأمهات وأبناء وزوجات المعتقلين والمسجونين ونقول لهم: أنتم وذووكم فخار لهذه الأمة الإسلامية، وإن تضحياتكم لن تضيع عند الله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: من الآية 120)، وليعلموا أنهم بعد ذلك في قلوبنا، ونحن بجانبهم، ولن نسكت عن نصرتهم، مهما كلفنا من ثمن وتضحية.

 

وننصح الظالمين والمفسدين بأن من مصلحتهم ومصلحة الوطن الاصطلاح مع شعوبهم، وإطلاق سراح هؤلاء الشرفاء؛ لأنهم أحرص الناس على مصلحة بلدهم، ويتحملون الأذى من أجل خير البلد وحريته واستقلاله.

 

ومع النصح نُنذر ونحذِّر هؤلاء الظلمة من سوء العاقبة: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُ﴾ (الشعراء: من الآية 227)، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".

 

ونهنئ المسلمين جميعًا ونصافحهم بأيدينا وقلوبنا، سائلين الله عز وجل أن لا يأتي رمضان المقبل إلا وقد مكَّن الله لدينهم الذي ارتضاه لهم، ومنحهم الحرية في أوطانهم، والسيادة على أرضهم، والتخلص من وصاية غيرهم، وإعلاء راية الإسلام خفاقةً على ديار المسلمين: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21)، والله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم