التاريخ : الخميس 13 نوفمبر 2008 . القسم : رسالة الأسبوع
حول بعض ما تعنيه الانتخابات الأمريكية
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد..
فقد انتهت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بفوز "باراك أوباما" رئيسًا لأمريكا، وما زال هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال حول هذا الفوز، الأمر الذي يستدعي وقفةَ تأمل لما حدث وما يمكن أن يحدث في الأيام المقبلة.
إيقاظ الحلم وبث الأمل
لا شك أن أوباما تمكَّن من أن يُعبِّر عن حُلم الملايين من الأمريكيين السود المضطهدين والمهمشين والمقهورين، وجاء فوزه مفاجئًا لكل التوقعات، خاصةً في مجتمع ما زال يحمل في ثناياه تلك العنصرية البغيضة.
وإذا كان هذا الفوز قد أحيا الأملَ في نفوس البسطاء في المجتمع الأمريكي- الذي يلعب فيه المال والإعلام الدور الأكبر في الانتخابات- فإن هذا ليس بغريب؛ لأن الشعوبَ القادرةَ على الحلم والارتباط الدائم بالأمل لا بد أن تصل في النهاية إلى تحقيق ما تصبو إليه نفوسها، ومن هنا كانت الحكوماتُ المستبدةُ والنظم القمعية حريصةً على أن تُصيب شعوبها بالإحباطِ وفقدانِ الأمل في التغيير أو الإصلاح.
لذا كان الإمام البنا حريصًا على تذكير الإخوان بهذا المعنى، معنى إحياء الأمل، عندما خاطب الإخوان بقوله: أيها الإخوان المسلمون.. لا تيأسوا فليس اليأس من أخلاقِ المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، وما زال في الوقت متسعٌ وما زالت عناصر السلامة قويةً عظيمةً في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد, والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين.. يقول تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ...﴾ (القصص).
الشباب والتغيير
لقد كان أوباما هو المرشح الأول في التاريخ الحديث لأمريكا الذي اعتمد على الشباب في حملته الانتخابية، والتي أسفرت عن فوزه بـ70% من أصوات الشباب تحت سن الثلاثين؛ حيث أدرك أن الشبابَ في أمريكا يحتاج لمَن يخاطبه ويقترب منه ويجذب انتباهه، ونجح في استغلال أقربِ الطرق إلى قلبِ الشباب، فكانت شبكة الإنترنت إحدى الأدوات الفاعلة في الانتخابات، ولأول مرة تجاوز معدل اهتمام الشباب بالانتخابات نسبة اهتمامهم بالرياضة والأخبار الترفيهية وأخبار المشاهير.
لقد قرر الشباب في أمريكا ألا يترك أمر السياسة للسياسيين المحترفين في واشنطن، والتي جرَّت البلادَ إلى الحروبِ الدامية والمجازر الوحشية التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، فضلاً عن الركود الاقتصادي وتشويه سمعة بلادهم.
إن الشباب- في أية بقعةٍ من العالم وفي كل مراحل التاريخ- هم وقود التغيير، وهم الطاقة المحركة والقوة الدافعة لإحداث الإصلاح، ومن ثَمَّ كان الاهتمام بهم من قِبل الدعاة والمجاهدين والمصلحين.. يقول الإمام البنا في رسالته (إلى الشباب):
"أيها الشباب.. إنما تنجح الفكرةُ إذا قوي الإيمانُ بها، وقوي الإخلاصُ في سبيلها، وازدادت الحماسةُ لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحيةِ والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل من خصائص الشباب؛ لأن أساسَ الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أمةٍ عماد نهضتها، وفي كلِّ نهضةٍ سر قوتها، وفي كل فكرةٍ حامل رايتها".
إعلاء قيم الحرية
لقد كانت الحريةُ التي ينعم بها الشعب الأمريكي عاملاً مُهمًّا ومؤثرًا في سير الانتخابات بطريقةٍ حرة، وبدون هذه الحرية ما كان يمكن لمثل هذه الأحلام الكبرى أن تتحقق؛ فقد جاء أوباما على أكتافِ أحزاب سياسية حقيقية ليس عليها حظرٌ في مقارِّها وليست مقطوعةَ الصلةِ بجماهيرها، ولا تشغلها معارك سياسية مع الأنظمة وأجهزة الأمن.
لقد نجح نجاحًا حقيقيًّا؛ حيث القوائم الانتخابية صحيحة وغير مزورة، ولا توجد بطاقة دوارة، ولا ألاعيب رخيصة في التزوير، فلم نرَ تدخلاتٍ أمنيةً، ولم نسمع عن إصاباتٍ، ولم نُشاهد قتلى ومطاردات المواطنين وهم يعبرون إلى اللجان تحت القصف والردع والقهر والتخويف.
شيء ما حدث
فعندما يصل أوباما الأسود والابن لأب إفريقي مسلم من كينيا إلى رئاسة أقوى دولة يشترط فيها العرف أن يكون الرئيس من فئة ذات مواصفات محددة، تعرف باسم "واسب"، وهي اختصار لمواصفات: أبيض وأنجلوسكوني، وبروتستانتي، فهذا يعني أن ثمةَ شيئًا ما حدث في البيئة الأمريكية.. قد يكون هذا الحدث مرتبطًا بعدة عوامل، بعضها ظاهر الآن، والبعض الآخر يحتاج إلى وقتٍ حتى تتضح معالمه.
الفرصة التاريخية
لقد كان شعار أوباما هو التغيير، غير أن الفرصة التاريخية التي واتته في الخامس عشر من سبتمبر والمتمثلة في الأزمة المالية والانهيار الاقتصادي الذي حلَّ بأمريكا، كان من أهم العوامل التي دفعت بأوباما إلى كرسي الرئاسة، وبدا للأمريكيين أن الاقتصاد أهم من لون البشرة، وأن حاجتهم إلى الخروجِ من الأزمة الاقتصادية تفوق رغبتهم في ألا يحكمهم رجل أسود.
ثم ماذا بعد؟
يجب أن نضع في الاعتبار أن هناك فارقًا بين ما قيل أثناء الحملة الدعائية الانتخابية وما سيحدث على أرض الواقع بعد أن يتولى الرئيس المنتخب مقاليدَ الأمور في البلاد، وأنه لم تتضح بعدُ ملامح السياسة التي ستتبعها الإدارة الجديدة تجاه إيران والعراق على سبيل المثال، غير أن ما تم حتى الآن من تحديد شخصياتٍ لوظائف بعينها وما يجري من ترشيحات لآخرين في بعض المواقع لا يبعث على الارتياح.
إن أي تغييرٍ سيحدث في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة تجاه منطقتنا لن يمس الثابت الأصيل في السياسة الأمريكية إزاء القضية الفلسطينية، وهو الدعم الكامل للكيان الصهيوني وحماية أمنه، خاصةً في ظلِّ التفكك والتشرذم العربي.
وعمومًا يجب ألا نُعوِّل كثيرًا أو قليلاً على الإدارة الأمريكية الجديدة، فبقدر ما نعتمد على قدراتنا وإمكاناتنا الذاتية بقدر ما نستطيع أن نفرض في عالم السياسة ما يتفق ومصالحنا وقيمنا ومبادئنا، ولا نعتقد أن العرب والمسلمين بموقعهم الإستراتيجي وإمساكهم بالنفط- روح الحياة والصناعة- وامتلاكهم الثروة التي يسيل لها لعاب البورصات والبنوك الأمريكية سيكونون أقل تأثيرًا في أية إدارةٍ أمريكيةٍ من الكيان الصهيوني ومنظماته المهيمنة على القرار الأمريكي، فقط يجب أن نمتلك الإرادة.
وعلى الشعوب العربية والإسلامية ألا تنتظر أمرًا ذا بال، ولتكن قيم الإسلام العظيم هي الملهمة والهادية لها في الوصول إلى غاياتها وأهدافها، وليكن المنهج الرباني في الفكرِ والخلق، والسلوك، فضلاً عن الأخذ بأسبابِ العلم والتخطيط والإدارة، هو السبيل إلى تحقيق نهضةٍ وتقدمٍ ورقيٍّ في كافةِ الميادين.
عليها أن تعتمد على قواها الذاتية في الإصلاح والتغيير، وعليها أن تُطلق طاقات الشباب في بلادنا لتحقيق آمالهم وآمال الأمة في التغيير والإصلاح بإطلاق الحريات العامة وإلغاء حالة الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات، مستلهمين قولَ الحقِّ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
كما على الشعوب العربية والإسلامية أن تؤمن بأن مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة حقٌّ مشروع وأنها السبيل إلى تحرير الأرض واستنقاذ المقدسات، خاصةً في عالمٍ لا يعترف إلا بالأقوياء.. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40)، والحمد لله رب العالمين.
القاهرة: 15 ذي القعدة 1429هـ = 13 نوفمبر 2008م