التاريخ : الخميس 02 ابريل 2009 . القسم : رسالة الأسبوع
فاعبده.. وتوَكَّل عليه
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله؛ سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
بينما يستقوي الظالمون بكل أنواع القوى ويعتمدون اعتمادًا كاملاً على ما لديهم من أدواتٍ هي من صنعهم؛ فإن أمتنا، أفرادًا وجماعات.. حكوماتٍ وشعوبًا، على كافة الصعُد وكل المجالات، بحاجة ماسَّة إلى أن تلجأ إلى أعظم القوى وأشدِّ الأركان.. إنها قوة الله.. إنه ركن الله؛ الذي تمثله عبادة الله والتوكل عليه؛ يقينًا وعملاً وسلوكًا.. ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (هود: من الآية 123).. واقعًا ملموسًا؛ بعيدًا عن الشعارات الجوفاء والخطب الرنَّانة، فنحن في أشدِّ الحاجة إلى معايشة القرآن الكريم، وفهم معانيه، وتحقيق واجباته التي فيها النجاة والفوز.
ولقد عُنِي القرآن الكريم بأمر التوكل مقرونًا بالعبادة في أكثر من آية ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ (المزمل: من الآية 9)، ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ (الملك: من الآية 29)، ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التغابن: من الآية 13) ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 88) ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: 5) ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (هود: من الآية 123).
فالعبادة والتوكل شطرا الدين الذي ارتضاه الله لنا، وهذه الآيات تصوِّر منطق الإيمان الصحيح كما نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالته وكل قائم بدعوته، وهي تصوِّر حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل من في الأرض من قُوى مضادة، وفي ذات الوقت تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح.
نظرات في العبودية
لقد كانت العبادة - وما زالت- هي تكليف الله للناس.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ (البقرة: من الآية 21) ، ولم لا وهي غاية وجودهم، ومن أجلها خلقهم؟ قال سبحانه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، والعبادة لا تعني فقط القيام بظاهر الدين دون الحياة في جوهره والعيش في كنفه؛ فهي تتسع لتشمل كل عمل صغير أو كبير يُقصد به وجهُ الله تعالى، وبالتالي فإن كل ما يحب ربنا ويرضى، قولاً وفعلاً وشعورًا ونيةً.. هو نطاق العبادة في أسمى صورها، وعليه فكل عادة يمكن أن تتحول إلى عبادة، ما كانت خالصةً لله ووفق الشرع.
والهدف الأسمى للمنهج الإسلامي بكل فروعه.. نظام الحكم, ونظام الاقتصاد, والتشريعات الجنائية, والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة، وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج.. هو تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان.
فليس هناك أشرف نزلاً ولا أرفع قدرًا ولا أكرم مكانةً من أن نكون عبادًا لله كما يحب ويرضى، فالتذلل بين يدي الله منتهى العز، والخضوع أمام سلطانه قمة العظمة، والخوف من قهره وانتقامه منبع الأمن، والبكاء من خشيته مبعث الرجولة، وذلك كله لا يكون إلا لله، فهو وحده المستحق للعبادة بلا منازع أو شريك، قال تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: 4).
إن حياتنا كلها- بما فيها ومَن فيها- ينبغي أن توجَّه لله الواحد القهار، ولا نخطو خطوةً ولا نعمل عملاً إلا والله تعالى أمامنا، وهو ما قام عليه الجيل الفريد في العهد الأول من هذه الرسالة الخالدة وضرب به أروع الأمثلة العملية في العبودية..
عبودية.. تورث عزًّا لا ذل فيه، واستعلاءً لا تكبُّر معه، يكون شعارها "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام"، ومدادها "لقد ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله".
عبودية.. تصنع أسسًا لحكمٍ قوامه العدل والمساواة والشورى واحترام الحقوق وأداء الواجبات، يتحقق فيها قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
عبودية.. تولِّد المسؤولية الفردية والجماعية عند الراعي والرعية على حدٍّ سواء، لا تفاخرَ فيها ولا بغيَ، ولا حقدَ ولا حسدَ، يتجسَّد فيها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
عبودية.. ترتكز على التربية ومنظومة القيم الإيمانية والأخلاقية كأساس للتغيير والإصلاح، وإرشاد الناس، ومواجهة التحديات والأخطار التي تواجه الأمة، وتنمِّي الإرادة الذاتية للشعوب في التغيير.
إن الأمة إذا حقَّقت صحة العبادة، بمدلولها الواسع ومفهومها الشامل، وكان الله غايتَها ومنتهاها فيما تقصد؛ لرحلت عن قلوبنا الدنيا، وحلَّ محلَّها حب الله وما أعدَّه لنا، وعندها يتجلَّى المعنى الحقيقي للحياة.. عندها يتغيَّر المشهد العالمي كله، فيعزُّ الإسلام، ويسودُ العالمين، ولن يفلح معنا مكر الصهاينة، ولا غطرسة الأمريكان، ولا ممالأة المنافقين، ولا عمالة العملاء، وعندها ستشهد الدنيا بنور الإسلام.
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؟!
إذا ركنَّا إلى مقام العبودية لله حقًّا، وقمنا بحق هذا المقام، وصار المرء عبدًا لله فمن ذا الذي يحفظه ويكلؤه ويمنعه غير الله، ومن ذا الذي يكفيه غير الله؟ ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؟! (الزمر: من الآية 36) بلى، فمن ذا يُخيفه؟! وماذا يُخيفه إذا كان الله معه؟! ولِمَ لا نتوكل على مولانا وهو هادينا سبلنا ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا..﴾ بل إننا نصبر على فتن الدنيا وإيذاء الظالمين؛ لأن ملجأنا إلى الله، ورجاءنا فيه، وتوكلنا عليه ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم: 12).
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب المؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه، وقد انقطع الجدل وانقطع الخوف على النفس أو الرزق ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: من الآيتين 2، 3).. وانقطع الأمل إلا في جناب الله سبحانه.. فهو كافٍ عبده، والعبد الصادق لا يتوكل إلا عليه وحده: ﴿قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ (التوبة: من الآية 129).
كما أن كل عبد مضطرٌّ إليه تعالى، لا يستغني عنه طرفة عين ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهْوَ حَسْبُه﴾ (الطلاق: من الآية 3) فمن يتوكل على الله فهو كافيه ومؤيدُه وناصرُه، ومن يتوكَّل على غير الله فإنما يتوكل على من يموت ويفنى، ومَن يعتوِرُه الضعف والعجز من كل جهة، فضلَّ سعيُه، وخابَ رجاؤه.
حقيقة التوكل
وفي السنة المطهرة يقول صلى الله عليه وسلم "لو أنكم توكَّلون على اللّه حق توكله لَرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا وتعود بِطاناً"، وهنا تنبيه على أن التوكل الصحيح يستلزم من صاحبه أن يُعْمِلَ الأسباب كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة: من الآية 11) فجعل سبحانه التوكل مع التقوى، وهي هنا شاملة للقيام بالأسباب المأمور بها، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محضٌ، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي أن نجعل التوكل عجزًا ولا العجز توكُّلاً، بل نجعل التوكل متمِّمًا لجملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.
من المعلوم أن الأسباب قد تنخرق للمتوكلين على الله، فالنار صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، والبحر- الذي هو مكمن الخوف- صار سبَبَ نجاة موسى ومَن آمن معه، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكُّل، كما لا ينبغي التعويل على الحول والطول أو الركون إلى الأسباب، فخالق الأسباب قادر على تعطليها.
إن الإسلام ينشد من أتباعه توكلاً يفجِّر الطاقات الإيجابية في النفس البشرية، فتحلِّق بها في سماء العزة والكرامة..
توكلاً.. يأخذ بالأسباب ويشحذ الهمم..
توكلاً.. يربط الأسباب بمسبِّبها ويعتمد على الله ويلجأ إليه..
توكلاً.. يقود البشر صوبَ التوازن المحمود والمنشود بين المادة والروح..
توكلاً.. يقرِّبنا من الله ويُرضيه عنا.
توكلاً.. يكون من عوامل النصر والتمكين..
توكلاً.. لا يورث التواكل.
فلو عبدت الأمةُ الله حق العبادة وتوكَّلت عليه حق التوكل لتغيَّر حالها، ولتقدمت الأمة، وقادتها لما فيه صلاحها، ولَمَا سيطر عليها أخسُّ خلق الله، إخوانُ القردة والخنازير وأعوانُهم وأذنابُهم، ولَمَا فرضوا عليها وصايتهم، ولَمَا احتُلَّت الأرض وانتُهكِت الحرمات، ولَمَا وصل الأمر إلى حدِّ استصدار قرار باعتقال رئيس عربي مسلم.
إن ما تعانيه الأمة اليوم هو هزيمة نفسية روحية قبل أن تكون مادية؛ لذا فنحن في حاجة إلى العودة الجادَّة إلى الله ومنهجه.
يا أمتنا.. على الله فليتوكل المؤمنون
لْنجعل من هذه الآية منهجًا لحياتنا ودعوتنا وحركتنا بين الناس.. ولْنجعلها شعارًا لحياتنا كلها.. ولْنحذر أن نكون من معوِّقات النصر بعدم اتباعنا هذا المنهجَ القويم.. ولْنحْيَ في معية الله.. ولْنحرص على حسن عبادته ومراقبته في كل حركة وسكنة وعلى حسن الصلة به؛ فإنه وحده ناصرنا ومعيننا.
والله أكبر ولله الحمد، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.