التاريخ : الخميس 11 يونيو 2009 . القسم : رسالة الأسبوع
جروح الأمة النازفة.. باكستان وأفغانستان والعراق والصومال
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ومن والاه، وبعد..
يكاد القلب يذوب من كمد ومن حزنٍ إنْ كان في القلب إسلام وإيمان.. أينما تولِّ وجهك اليوم إلى بلاد الإسلام، خاصةً المناطق الملتهبة في باكستان وأفغانستان والعراق والصومال؛ تجد أنهارًا من الدماء البريئة، تسيل بصورة يومية وبأيدٍ- للأسف- مسلمة، والفتنة أطلَّت برأسها في كل بلد ومن ورائها أيدٍ خبيثةٌ ومؤامراتٌ أجنبيةٌ تريد تمزيق الأمة، بل تمزيق كل بلدٍ وتقسيمه، والمستفيد الوحيد هم أعداء الأمة، من الصهاينة والاستعماريين الغربيين في أمريكا وأوروبا.
إننا- معشرَ الإخوان- نريد لكل بلد مسلم ووطن من أوطاننا القُطرية أن ينهض ويتقدَّم، ويحقِّق وحدته الوطنية في إطاره الضيِّق، وأن يسعى الجميع في كل منطقة جغرافية إلى تمتين أواصر الروابط الإقليمية والعلاقات الثقافية والاقتصادية فيما بينها؛ حتى يتحقَّق تكاملٌ إقليميٌّ يمهِّد الطريق إلى إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية كلها؛ بتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، وإحياء مجدها، وتحرير أوطانها.
أين المسلمون؟!
الآلاف فروا من جحيم المواجهات في سوات
في باكستان.. بعد اتفاق مع الحكومة على تطبيق الشريعة الإسلامية في "وادي سوات"، نزولاً على رغبةٍ شعبيةٍ جارفةٍ لدى أبناء الإقليم، وهي رغبة قوية لدى كل الشعب الباكستاني، بل هي الهدف الذي أُنشئت من أجله باكستان، وإلا فما معنى انفصال المسلمين عن الهندوس في شبه القارة الهندية إنْ لم يكن من أجل إحياء مجد الإسلام وتطبيق شريعته الغرَّاء؟!
لم تمضِ أيامٌ على هذا القرار إلا وأطلَّت الفتنةُ برأسها، وبدأت حوادث التحرُّش وهجمات مريبة خارج الإقليم، ويتم نسبتها- صدقًا أو كذبًا- إلى التنظيمات الإسلامية؛ مما أدَّى في النهاية إلى انهيار الاتفاق، واجتياح الجيش منطقةَ "وادي سوات"، وقتْل المئات من الأبرياء، ونزوح مليون ونصف المليون لاجئ داخل باكستان.
من كان وراء ذلك التحريض على إفشال الاتفاق ثم اجتياح الإقليم؟!
إنها أمريكا.. التي تتغنَّى بعظمة الإسلام في خطاب رئيسها، بينما تحرِم شعبًا من اختيارٍ حرٍّ لتطبيق الإسلام في بلده.
أمريكا.. التي ورثت السياسة الاستعمارية الإنجليزية "فَرِّقْ تَسُدْ"، فإذا بها تقسِّم العرب إلى معتدلين ومتشدِّدين، وتُعيد للمسلمين ذكرياتٍ تاريخيةٍ أليمةٍ كادت تنتهي، فتشعل فتنةً مذهبيةً بين شيعة وسنة، أمريكا.. التي أنهت سيطرة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة: (بريطانية وفرنسية وإيطالية)، وغيرها لِتَرثَ هي تركة هذه الإمبراطوريات، وتنهب ثروات المسلمين خاصةً البترول، وما زالت تضع يدها على هذه الثروات طوعًا أو كرهًا، رضًا أو غصبًا.
أمريكا.. التي حرَّضت الحكومة الباكستانية- وما زالت- ضد جزء من شعبها، وتسبَّبت في إراقة دماء الأبرياء، ولجوء الملايين، وتهديد بقاء باكستان نفسها كدولة ووطن لكل أبنائه.
وفي الجوار من باكستان لم يتوقف قصف الأبرياء من الأفغان منذ ثماني سنوات، ويغرق جنود حلف الأطلنطي يومًا بعد يوم في أوحال أفغانستان؛ ليعيدوا تكرار تجارب لم يستفيدوا منها منذ الإسكندر الأكبر، مرورًا بالبريطانيين، وانتهاءً بالسوفيت.
كل يوم قصف لقرى الفلاحين الأبرياء الذين ما زالوا رغم كل شيء يحيَون حياتهم المتواضعة، ويقيمون أعراسهم البسيطة، فإذا بالطائرات الحربية الأطلنطية والأمريكية تقصف أفراحهم؛ فتحوِّلها إلى مآتم، ويسقط العشرات، ولا تعتذر أمريكا، ولا يتوقف القصف العشوائي المميت.
ويتربَّع على رأس الدولة حاكمٌ مهدَّد بالقتل كل صباح، لا يجد تأييدًا شعبيًّا، ولم يُنتخَب انتخابًا حرًّا، ويعيش تحت الحراسة الأمريكية، وبدعم مالي من أمريكا، وليس في الأفق حلٌّ سلميٌّ، بل هي الحرب الضروس التي لا تنتهي، فالاحتلال يستدعي المقاومة، والمقاومة لن تتوقف إلا بعد التحرير، ويقع البلد رهينةً للنزاعات الإقليمية والدولية، ولن يعجز المقاومون عن الحصول على مددٍ من هنا وسلاح من هناك.
ونفس الوضع المأساوي في الصومال.. الذي وقع فريسة الصراع بين إثيوبيا وإريتريا، ورهينة المؤامرات الدولية التي تنسج خيوطها أمريكا، فوقع النزاع والشقاق، ثم القتال والصراع بين إخوة الأمس؛ لتتحول شوارع العاصمة مقديشو إلى ساحات للقتال، ويسقط عشرات القتلى يوميًّا في صراع مميت، لا يحقق أمنًا، ولا استقرارًا ولا استقلالاً، وتُغذِّي هذا الصراع القوى الإقليمية التي تمدُّ أطراف النزاع والقتال بالأسلحة والمَدَد والتدريب، بينما يتحوَّل الصومال إلى بلدٍ لدفْن النفايات النووية والكيماوية؛ مما يهدِّد صحة أبنائه وتربة بلاده وثرواته الحيوانية، وتتحوَّل سواحله إلى ساحات للقرصنة الدولية، وبعد أن فقد الشعب الصومالي ثقته بالقيادات السياسية، ثم أمراء الحرب؛ ها هو على وشك أن يفقد ثقته بالزعماء الإسلاميين الذين كانوا أملاً في نهضة جديدة بالصومال.
الاحتلال الأمريكي أسال دماء الملايين في العراق |
العراق.. الذي أصبح مسرحًا للنفوذ الإيراني والصهيوني بعد النفوذ الأمريكي، وغاب عنه العرب، وها هم يبكون على اللبن المسكوب والنفوذ المفقود، بعد غياب أو تغييب مقصود ومتعمَّد.
وأمام هذا النزيف الذي لا يتوقف علينا أن نضع خريطةً للحل ووقف نزيف الدماء:
1- على الجمع المتورِّط في الصراعات والنزاعات أن يستمع إلى قول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 1).
2- على الجمع الذي يتفرَّج على هذه الدماء من المسئولين أن يستمع إلى قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)﴾ (الحجرات)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)﴾ (آل عمران).
3- على الأمة أن تحذَرَ أعداءها المتربِّصين، وتستمع إلى قول الحق: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ..﴾ (آل عمران: من الآية 103).
إننا ندعو العقلاء من هذه الأمة إلى أن يقفوا وقفةَ حساب مع أنفسهم، وأن نعلم أن الطريق إلى وقف النزيف هو:
- إعادة الحرية إلى الشعوب، واحترام اختياراتها الحرة النزيهة.
- استقلالية القرار الوطني والقومي والإسلامي، ومنع التدخلات الأجنبية في الشئون الوطنية والإقليمية.
- احترام الحق في المقاومة، ودعم المقاومين الشرفاء في كل مكان ضد الاحتلال الأجنبي.
- الحذر من مؤامرات الأعداء المتربصين بالأمة.
- السعي إلى تنمية حقيقية ونهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية؛ تُعيد للأمة روح التماسك والترابط، وتمنع الفتن من أي نوع.
- هذا هو دور القوى الحية ومؤسسات المجتمع المدني في كل بلادنا؛ أن يرتفع صوتها الدَّاوي في مواجهة الاستبداد والفساد، وأن تكون لها حركتها المتوثِّبة في إيقاظ الأمة، ورفع وعيِها، وتنبيهها لما يحاك ضدها، ويراد لها.. والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل، والله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.