التاريخ : الخميس 17 يونيو 2010 . القسم : رسالة الأسبوع

الشريعة الإسلامية أمان لكل البشر


رسالة من: د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

الإسلامُ دينٌ ودولة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فقد استقرَّ في طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِن الناسِ التَّسْلِيمُ بوجوبِ العيْشِ في جماعةٍ لها قوةٌ ونظامٌ وقانونٌ يَمْنَعُهمْ مِن التَّظَالُمِ، وَيَفْصلُ بَيْنَهُم فِي التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وتطوَّرَتْ صورةُ هذه الجماعةِ حتى استقرَّتْ على صُورَةِ الدَّولة، وقَبِلَ الناسُ على مرِّ العُصورِ أن يُعْطُوا مِن قوَّتِهم لقُوَّةِ الدولةِ، ويتَخَلَّوْا عن بعضِ قُدْرَتِهم لصالحِ تقويةِ النظامِ والجماعةِ، لتفرِضَ هَيْبَتَها وسطوتَها، التي تُخْرِجُ الحقَّ مِن الظَّالِمِ، وَتَدْفَعُ الكَثِيرَ مِنْ المظالمِ، وَتَرْدَعُ أَهْلَ الفسَادِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى المقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، ويتحقَّقُ بها العَدلُ والاطمِئنانُ، وَلوْلا ذلك لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ، وَهَمَجًا مُضَاعِينَ، وَقَدْ قيل:

لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لَهُمْ   وَلا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

وبهذا جاءَ الإسلامُ الحنيف، ودعا إلَى اختِيَارِ مَنْ هُو لِلْقيادة أَصْلَحُ، وَبِتَدْبِيرِ مَصَالِحِ الناسِ أقْوَمُ وَأَعْرَفُ، حتَّى ينْتَظِمَ أمرُ النَّاسِ على العدْلِ، وتَستقيمَ أحوالُهم عَلَى الانضباطِ، وتُحْفَظَ حياتُهُم من القَلَقِ والاضطرابِ، ويَسْتَقِرَّ معاشُهم في ظلالٍ مِنَ الأمْنِ والكرَامةِ الإنسانيَّةِ، ودَعَا الجميعَ إلى احترامِ هذا النظامِ، حتى قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: "الملْكُ وَالدِّينُ أَخَوَانِ، لَا غِنًى لأحَدِهِمَا عَنْ الْآخَر، فَالدِّينُ أُسٌّ وَالملكُ حَارِسٌ، فَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُسٌّ فَمَهْدُومٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَارِسٌ فَضَائِعٌ".

 

ولِكيْ يحصُلَ ذلك فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى وضَعَ قواعدَ العدْلِ وأصولَ الحُكْمِ الرشيدِ في القرآنِ العظِيم ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية 89)، وألْقَى اللهُ على لسانِ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم تفسيرَ ما وَرَدَ في القرآنِ، وأَوْكَلَ إليهِ تقديمَ صُورةٍ تطبيقيَّةٍ عمليَّةٍ للحُكْمِ الرَّشيدِ، فحَفَلَ دِينُ الإسلامِ العظيم نظريًّا وعمليًّا بالتي هي أَقْوَمُ في تقريرِ الحقوقِ، وحِفْظِ الحرِّيَّاتِ، وضَمانِ الحياةِ الكريمةِ للنَّاسِ جميعًا، وبذلك كَمُلَ الدينُ وتمَّت النِّعْمةُ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).

 

الشريعة الإسلامية تحمي غير المسلمين:

في ظِلالِ الشريعةِ الإسلامية السمحة وحدَها تَمَّ السماحُ لغيرِ المسلمين من اليهودِ والنصارى بالاحتفاظِ بخُصُوصِيَّاتِهم، وبالاحْتِكامِ لشرائعِهم فيما يتعلَّقُ بأحوالِهم الشخصيَّةِ ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة: من الآية 48) وتمَّ استثناؤُهم مِنْ بعضِ التشريعاتِ من الواجباتِ أو المحرَّمات التي ليستْ مُقَرَّرةً عندَهم، وفي ظِلِّ الشريعةِ الإسلامية وحدَها مُنِع ازْدِراءُ الأدْيانِ أو إهانةُ الرُّموزِ الدينيَّة، ولذلك لم يَكُنْ غريبًا أنْ تلجأَ الكنيسة في مصر إلى الشريعةِ الإسلاميَّةِ؛ لتأكيدِ حقِّ النصارَى في التَّحَاكُمِ إلى شريعتِهم، كما كان الحال دائمًا منذ الفتح الإسلامي وحتى الآن، ومن الواضحِ لكُلِّ ذي بصيرةٍ أنَّ الاحتكامَ إلى الشريعةِ الإسلاميةِ هو وحدَه الذي يُحقِّقُ استقرارَ المجتمعِ ويحافظُ على تَعَدُّدِيَّتِه الدينيَّةِ ويعطي كل ذي حق حقه، في إنصافٍ واضحٍ، يحمي الوحدة الوطنية، ويحافظ على النسيج الاجتماعي لأبناء الوطن الواحد.

 

الشريعة الإسلامية هي التي تحمي كرامة الإنسان وحريته:

إنَّ القانونَ الوضعيَّ مهما كان إِحْكَامُه لا يُمْكنُ أن يقومَ بذاتِ الدَّوْرِ الذي تقومُ به الشريعةُ في بَسْطِ الأمْنِ والعدالةِ والحُرِّيَّةِ؛ لأنَّ القانونَ ليستْ له تلك القداسةُ والسَّطْوةُ الأخلاقيَّةُ والرُّوحيَّةُ التي تختصُّ بها الشريعةُ، التي تتعاملُ معَ ضمائرِ الناسِ في ذاتِ الوقتِ الذي تُوَجِّهُ فيه سُلوكَهم، ومِنْ ثَمَّ لا يقعُ في نفسِ المخالِفِ للقانونِ الوضعيِّ ذلك الخوفُ من الله والحَرَجُ والقلَقُ النفسيُّ ووَخْزُ الضميرِ الذي يقعُ لمن يُفَكِّر في مخالَفةِ الشريعة، بلْ ربَّما كان أولُ الملتفِّينَ على القانون هو ذاته الذي وضع القانونَ، ويعرفُ مواطنَ الخلَلِ فيه، بل ربما عُدَّ التحايل على القانون لونًا من الذكاء وضربًا من المهارة.

 

في ظلِّ القانونِ الوضعيِّ فإنَّ الحاكمَ يسهُلُ عليه أن يتحوَّلَ إلى مُسْتَبِدٍّ، دون أن يحس بالحرج،  ويصبحُ القانونُ أداةً طيِّعةً في يده يستخدمُها لمصلحتِه ويُغَيِّرُها متى شاء، وقد رأيْنا في مصر كيف يتحوَّل القانونُ، بل الدستورُ إلى سيفٍ يستخدمُه النظامُ المستبِدُّ، الذي يُعَدِّلُ الدستورَ ويتلاعبُ به رغْمًا عن إرادةِ الأُمَّة، ويستغِلُّ الأغلبيةَ المزيَّفة لتمريرِ القوانينِ سيئةِ السمعَة، بل المقنِّنةِ للفساد والحاميةِ للمفسدين، دون أدنى مبالاةٍ أو اكتراثٍ للنتائجِ الوخيمةِ المترتبةِ على هذا العبث، والمسقِطةِ لهيْبَةِ وقيمةِ ومعنى الدولةِ في نفوس المواطنين.

 

الآثار المرة لغياب الشريعة الإسلامية وتعاظم الاستبداد:

في غيْبةِ الشريعةِ الإسلامية وتَغَوُّل الاستبدادِ تصبحُ القوةُ فوق الحقِّ، وتصبحُ وظيفةُ بعضِ المؤسساتِ القانونيةِ تنفيذَ إراداتِ السلطةِ المستبدة، بدلاً من إرساءِ العدلِ، وتحقيقِ مصالحِ الأمة، واسألوا لجنة الانتخابات العليا عما جرى في مهزلة انتخابات مجلس الشورى في مصر.

 

وفي غَيْبةِ الشريعةِ الإسلامية وتَغَوُّل الاستبدادِ أصبحتْ وظيفةُ المؤسساتِ الأمنيةِ ملاحقةَ معارضي الاستبداد، والتنكيلَ بخصوم المستبد، بدلاً من ملاحقةِ المفسدين ومتابعةِ عصاباتِ الإجرامِ، وأُطلِقتْ يدُ السلطة في العبث بكرامة الناس وحياتهم وحرمانهم من حقوقهم.

 

وفي ظل غَيْبةِ الشريعةِ الإسلامية وتَغَوُّلِ الاستبدادِ يكثرُ الظلم والاعتقالُ للشرفاءِ، وتمتلئُ السجونُ في بلاد كثيرة بذوي الكفاءاتِ والمهاراتِ العلميةِ؛ لمجرد أنهم يرفعون أصواتَهم ضدَّ الفسادِ والاستبدادِ والتزويرِ الفجِّ لإرادة الأمة، ويُوَسَّدُ الأمرُ إلى غيرِ أهله، وتخلو الساحةُ لضعافِ العقولِ والنفوسِ الذين يؤثرون مصالحهم الخاصة على مصالح الوطن والأمة، فتشيع– تبعًا لذلك- الأنانيَّاتُ الفرديةُ، وتتمزَّقُ شبكةُ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، وتهتزُّ قيمةُ العدلِ في نفوس المواطنين.

 

ومن ثَمَّ تحصُلُ المظالمُ في شتى مناحي الحياة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، وتُبْطِئ أو تتوقفُ، بل تتراجعُ عملية التنمية، وتنْزَوِي قيمُ الوطنيةِ والرجولةِ والأخلاقِ النبيلةِ؛ لتحِلَّ محلَّها أخلاقُ الانتهازيَّة والوُصولية، ويلجأُ القوِيُّ لأخْذِ حقِّهِ بيدِه، ويجد المواطنُ العاديُّ البسيطُ نفسَه مضطرًا لتقديم الرِّشَى لاستخلاصِ بعضِ حقوقه، والسلامة من التعرُّض للظلمِ، فيضيعُ معنى الدولة، وتتعرَّضُ الأمةُ للهلاك، ورضي الله عن علي بن أبي طالب الذي قال في أَوَّل كِتَابٍ كَتَبَهُ بعد أن تولى الخلافة: "أَمَّا بَعْد، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الْحَقَّ حَتَّى اشْتُرِيَ، وَبَسَطُوا الْجَوْرَ حَتَّى افْتُدِيَ".

 

وإنَّ أبسطَ الناسِ تفكيرًا لَيَرَى كيف غابت حقيقةُ الدولةِ بعد أن اختُزِلَت في سلطان وسطوة قوى الأمن؛ الذي أكثرُ همِّه ومبلغُ علمِ القائمين عليه: عَدُّ الأنفاسِ على الناسِ، وحرمانُ الكفاءاتِ من الوظائفِ والمناصبِ المستحقةِ لهم، وتلفيقُ القضايا للشرفاءِ، والتضييقُ عليهم وإرهابُهم وإهدارُ كرامتهم، في انحرافٍ فجٍّ في استعمال القانون، مما ينذرُ بأوخمِ العواقب.

 

شتَّان بين دولةٍ أساسُ الحكم فيها السجنُ والكرباجُ والتعذيبُ والمحاكمُ الاستثنائية، تضيعُ فيها الحقوقُ، ويشيعُ فيها الإحساسُ بالظلمِ.. وبين دولةٍ تحكمُ بالشريعة الإسلامية العظيمة، ويقول حاكمُها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لوُلاته: "أدِرُّوا علَى المسلمينَ حقوقَهم، ولاَ تَضْرِبُوهم فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ تُجَمِّرُوهُمْ (أي لا تحبسوهم بغير حق) فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا تُغْلِقُوا الأَبْوَابَ دونَهم، فَيَأْكُلَ قَوِيُّهم ضَعِيفَهم، ولا تَسْتَأْثِرُوا عليهم فتَظْلِمُوهُم، ولا تَجْهَلُوا عليهم".

 

وفي غيابِ الشريعةِ الإسلامية وتَغَوُّلِ الاستبدادِ تسودُ قِيَمُ النفاقِ التي تفترس المظلومين من أذكياء الأمة ومحروميها، ويبرز تيارٌ سُلطويٌّ من المثقفين والإعلاميين تكون مهمتُه تبريرَ تصرفاتِ الحكامِ المستبدِّين الضالَّةَ وأوضاعَهم المنحرفةَ، فيبرِّرون جوْرَهم وقسوتَهم على الأمة برعاية المصالحِ الكبرى لها، ويبرِّرون تفريطَهم وتخاذُلَهم أمام عدوِّهم بأنه من باب السياسة الواعية، وفي ذات الوقت يصفون المعارضةَ السياسيةَ لهم بالخروجِ والبغيِ والعِمالةِ والخيانة، وينعتون النصيحةَ الشرعيةَ الواجبةَ لهم بالتمَرُّد، ويعدُّون نقدَهم للنظامِ من بابِ الإهانةِ لرموزِ الدولة، ويستحقُّ المعارضُ الناصحُ الأمينُ الموتَ والإخراجَ من الأرض، بل ومن الدين إذا اقتضى الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

هكذا نرى أن غياب الشريعة الإسلامية يفسدُ الفطرةَ البشريةَ، ويُهَدِّدُ الحياةَ المجتمعيَّةَ، ويقلِّص من فرص الإبداع والإنجاز، ويحطِّمُ فضائلَ النفس البشرية، ويُحَلِّل مقوماتِها، ويغرسُ فيها طباعَ العبيد، ويُشْعِرُ الفردَ بالضآلة والمهانة، فينشأُ نشأةً لا يَثِقُ فيها بنفسه، ولا يقدرُ على اتخاذ القرار الذي يناسبُه، فتنشأُ الأجيالُ في ظل الاستبداد الأعمى عديمةَ الكرامة، قليلةَ الغَنَاء، ضعيفةَ الأخذ والرد.

 

ولا سبيل إلى إنقاذ الأمة العربية والإسلامية من هذا الوضع المتردي إلا التعاون والتنسيق بين المخلصين من أبناء هذه الأمة، وعدم الاستجابة لمكائد الأنظمة المستبدة الحريصة على التفريق بين طوائف الأمة وأطيافها؛ لتظلَّ يدُها طليقةً في العبث بمقدَّرات الأمة ومستقبلها، والإخوان المسلمون أينما وُجدوا ومن منطلق الإحساس بالمسئولية سيبقون يمدُّون أيديهم لكل القوى المخلصة والحية دون استثناء، لتوحيد الرؤى وتكامل الجهود في مواجهة هذا العبث والاستهتار؛ حتى تنهض أمتنا من كبوتها، وتتبوأ المكانة التى تستحقها بين بقية أمم الأرض.

والله أكبر ولله الحمد