التاريخ : الخميس 12 أغسطس 2010 . القسم : رسالة الأسبوع

رمضان.. شهر بناء الإرادة وتحريرها


رسالة من أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فمع إشراقة رمضان ونسماته العطرة، تفوح في الأفق فضائله التي منَّ الله علينا بها، فهو شهر القرآن؛ دستور الأمة.. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185).

 

وفيه تضاعف الحسنات، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار.. "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين"، وفيه ليلة القدر؛ التي هي خير من ألف شهر، كما قال المعصوم: "فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"، وفيه تتحقق التقوى بأجلِّ صورها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة)، ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أدرك رمضان ولو مرة ولم يغفر له بقوله: "رغم أنفه"، وهو شهر الانتصارات العظيمة في التاريخ الإسلامي قديمًا وحديثًَا، ففيه غزوة بدر الكبرى، وفيه فُتحت مكة، وغيرهما من الانتصارات المجيدة، كان آخرها نصر العاشر من رمضان الذي دخل الجنود معركته وهم صائمون، ولعل من أهم أسباب هذه الانتصارات هو التحلِّي بالمعاني الحقيقية التي يرسِّخها الصيام في النفوس، ومن أهمها وأبرزها تحرير الإرادة بكلِّ معانيها وعلى كل مستوياتها، فكما أن الصوم يهدف إلى تحقيق التقوى في النفوس، فهو كذلك يبني الإرادة الحرة، وكما أن جوهر الإخلاص وحقيقته هو التحرر من الخضوع لكلِّ قوة من دون الله مهما بلغت؛ فإن الصوم وسيلة لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والعادات والشهوات، فمن تدرَّب على أن يمتنع- باختياره- عن شهواته وملذاته، ويصرُّ على الامتناع عنها؛ لا لشيء إلا طاعة لله، فلا بد أن تخرَّ أمامه الأهواء والعادات، ويشعر بالنصر عليها.

 

فالمحرمات على الصائم شديدة الصلة بحياته اليومية، وذلك لتعميق الأثر في تربية الإرادة في نفسه لتجعله أقوى على ترويضها، والتحرُّر من سطوة الغريزة ومكايدها، ولتقوية عزيمته وشحذ همته، فالصوم يحدُّ من طغيان الجسد على الروح، والمادية على الإنسانية، والعبودية على الحرية، فإرادة الإنسان عندما تخضع لإرادة الله سبحانه وتعالى لا تذوب لتموت، وإنما تذوب لتحيا وتدوم، فكيف بإنسان انتصر على شهواته الحلال الضرورية أن ينهزم أمام شهوات حرام.

 

لذا يعدُّ الصيام من أكثر العبادات دعمًا للروح في الإنسان؛ لأن الصيام يضعف الشهوات التي يزكيها إفراطه في الطعام والشراب، وبذلك يحقق الغاية في الارتقاء بروحه إلى مرتبة كمال الخشية من الله، وتمام الالتزام بما تقتضيه تلك العبادة من ضوابط وأخلاق وآداب؛ بحيث يقيم الصائم من نفسه رقيبًا على نفسه، فلا يرائي الناس بصومه فيعالجه الصيام من هذا الداء الذي هو أخوف ما يخافه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماه الشرك الأصغر حتى يؤدي صومه على الوجه الأكمل الذي يريده ربنا ويرضاه، حتى يصل إلى منزلة الربانيين الذين يعظِّمون شعائر المولى عزَّ وجلَّ قولاً وعملاً، فتصير حركاتهم وسكناتهم وصلاتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾ (الأنعام:).

 

وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم"، الذي يربي في المسلم قوة الإرادة ويجعل من الصوم وسيلةً لتحسين الأخلاق، وكظم الغيظ، ومواجهة الأذى والجهل بالعفو والصفح.

 

والمسلم في رمضان يخالف عاداته ويتحرَّر من أسرِها، ويترك مألوفاته التي أحلَّ الله له؛ فتراه ممتنعًا عن الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان امتثالاً لأوامر الله عزَّ وجلَّ، وبذلك يصبح الصوم عند المسلم مجالاً رحبًا لتقوية الإرادة؛ فيستعلي على حاجيات الجسد، إيثارًا لما عند الله تعالى من الأجر والثواب.

 

بين الإرادة والحرية:

فالإرادة إذن هي القوة التي تُمَكِّن الإنسان من أن يقول: (نعم) أو (لا) بكامل حريته النابعة من عبوديته لله وحده لا شريك له عندما تدعوه شهوة أو عاطفة، أو يحاول ظالم أن يوظِّفه لخدمة أغراضه ومطامعه، ويكون إمامه وقائده في ذلك تقوى الله ورضاه، فالقدرة على الرفض والامتناع أقوى من القدرة على القبول والإيجاب؛ لذا فعندما تحرَّرت إرادة المسلمين الأوائل من جواذب نفوسهم الأرضية وحققوا في أنفسهم المعاني الحقيقية للصيام استحقوا نصر الله، ودانت لهم الدنيا، فإذا كنا نريد تحقيق النصر فعلينا تحرير أنفسنا وإرادتنا كما فعل أسلافنا.

 

وهكذا الصيام يربي الإنسان على أن يكون حرًّا في حياته كلها؛ بحيث لا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك مصيره إنسان، أيًّا كان ذلك الإنسان. وهكذا يكون سيِّد نفسه، ويملك أن يريد أو لا يريد، كما أنه ينمي استقلال الإرادة، ويمرِّن الصائم على اعتياد التحرر ليواجه التحديات والصعاب بمزيد من الثبات والعزم والجلد، فلا يذلُّ ولا يستكين، فالصوم إلى جانب كونه ترويضًا للنفس لتربيتها على الإرادة، فهو عبادة لله، يتقرب بها المسلم إلى الله.

 

فإذا استفاد المسلم من هذا الشهر المبارك فقويت عزيمته وإرادته، وطالت مدة التغيير فاستوعبت الشهر كله، فتترسَّخ الصفات، ويصبح متين الخلق وليس صاحب خلق فقط، ووجد العون من المجتمع؛ بحيث يكون مشاركًا له في هذه العبادات والقربات، فيكون الكل مشاركًا في عملية التغيير؛ مما يعين على امتداد الأثر ليشمل حياته كلها، وهنا فرقٌ بين أن أشارك المجتمع ويشاركني في الخير وبين أن أكون إمَّعة؛ لأن الإنسان في الحالة الأخيرة سيشارك المجتمع في الإساءة إذا وجد الناس يسيئون؛ لذا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن لا تظلموا".

 

والإنسان عمومًا تتجاذبه نزعتان: الأولى مادية.. مصدرها العنصر المادي في تكوينه، ومنها تصدر التصرفات غير السوية في سلوكه إذا أرضى ماديته فقط ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ (التوبة: من الآية 38)، والثانية روحية تدفعه دائمًا إلى أن يرتفع في تصرفاته عن كل ما ينتقص دينه أو خلقه، وهي التي يستعلي بها عن الدنايا والخطايا.

 

والعبادات في الإسلام تستهدف دعم العنصر الروحي في الإنسان حتى تتمَّ له الغلبة على العنصر المادي، وكلما قوِيَ العنصر الروحي فيه كانت صلته بربه أشدَّ رسوخًا وأكثر شموخًا، وهنا يأتي الصوم ليزكي النزعة الثانية ويرسخها في النفس، وبذلك يروِّض الصائم نفسه ويحرِّر إرادته من آثار النزعات والرغبات والشهوات، وبذلك تتحرَّر إرادته ذاتيًّا.

 

وتلك التجربة العظيمة في ترويض النفس بالجوع وتحرير الإرادة بالحرمان وتقوية العزيمة بالصيام جديرةٌ في ذاتها بالتقدير والاعتبار؛ لما لها من أثر بالغ في تربية شخصية المسلم الصائم، وصقلها، وتنقيتها من شوائب الضعف والوهن والخمول، وبهذا يتحقق فينا "المسلم القوي الأمين" الذي هو أحب إلى الله جلَّ جلاله، كما أخبر عن ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: "المؤمن القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف".

 

تحرَّر في رمضان

فلنجعل من رمضان فرصةً لتقوية الإرادة والاستعلاء على الشهوات والمألوفات، والتحرُّر من أسر العادات، حتى نكون ممن أدركهم الله برحمته فوفِّقوا لصيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا فغُفر لهم، فالصيام رياضة قلبية وليس حرمانًا جسديًّا، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى أن نعرج بأرواحنا في رمضان من خلال تعزيز إرادتنا وتقويتها، وأعظم العلامات على ذلك الامتثال لما أمرنا الله به والامتناع عما نهانا عنه، حتى تشف أرواحنا وتقوى فتتعامل بتفاعل مع القرآن: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾ (الشورى:52).

 

إن قوة العزيمة والإرادة التي يرسِّخها الصوم في نفوسنا هي ما تحتاجه الأمة في مواجهة الأهواء والشهوات والفتن والتحديات، وتحتاجها لمواجهة ميل النفوس إلى الدعة والراحة وإيثار السلامة على الجهاد والتضحية والبذل والعطاء.

 

فنحن في حاجة لأن تتحرَّر إرادة الأمة وإرادة قادتها من الجواذب الأرضية والعمل الجادّ والحثيث؛ لتغليب الصالح العام على الخاص، ومناصرة قضايا الأمة والذَّود عنها، وعدم الترخُّص فيها وعدم الركون إلى الدعة وإيثار السلامة على مواجهة التحديات والتغلب عليها.

 

إن التغيير الذي يحدثه رمضان في النفوس ليس فرديًّا وحسب، ولكنه تغيير جماعي على كلِّ المستويات ويشمل الأمة بجميع عناصرها، فالأمة في أمسِّ الحاجة إلى تحرير إرادتها، وفي المقدمة منها رؤساؤها وزعماؤها، فهم مطالبون بتحرير إرادتهم من تأثير كل تبعية خارجية لا ترجو الخير للأمة ولا لمستقبلها، فهم لا يملكون لكم نفعًا ولا ضرًّا ولا عزًّا، كما قال ربنا عزَّ وجلَّ: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)﴾ (النساء: 139)، وليعلموا أن في تحرير إرادتهم تحريرًا لإرادة الأمة جمعاء، وإن تثاقلوا وتباطئوا فسوف يبوءون بإثم الأمة جمعاء، وستتمُّ سنة الله في الكون، وسوف يتم التغيير وستتجاوزهم الأحداث، فليقُمْ كلٌّ بدوره المنوط به، وليؤدِّ واجبه المفروض عليه غير متخاذل ولا منكسر، ولتعلموا أن شعوبكم أعظم سند لكم، فانحازوا لهم واحتموا بهم.

 

أيها الإخوان المسلمون.. أيها الناس أجمعون..

إن الباعث الحقيقي للتغيير داخلي؛ لذلك فمن انهزم داخل نفسه كان أعجز من أن ينتصر على غيره، فلنجعل من رمضان فرصةً حقيقيةً للتغيير والانطلاق الجادِّ نحو تحرير إرادتنا على كلِّ الأصعدة، والتمسك التامِّ بما يأمرنا الله به، والعمل الجادِّ لتحقيق أوامره وتطبيقها على أنفسنا، واعلموا أن تحرير إرادتنا هو سرُّ قوتنا ونصرنا وعدم تحكم أي قوة فينا، وهو الدافع الحقيقي لرفض الإهانة والذلِّ والهوان الذي قد يرضى به بعض ضعاف النفوس ممن لا يَحيون صوم رمضان واقعًا معيشًا.

 

إن أول الهم إرادة، وآخر الهم همة، فلنتحركْ ولندعُ إلى الله في كلِّ وقت وحين، ولا نهدأ ولا نملّ، ولنجعل من التربية الرمضانية زادًا روحيًّا لنا؛ لتحقيق مستهدفاتنا، ولنبذل أقصى وُسع لنا في تحقيق ذلك، وليكن شعارنا كما قال بعض السلف: "أعظم الناس وسعًا أعظمهم إيمانًا"، واعلموا أن أولى الخطوات على طريق النصر هي تحرير الإرادة من كلِّ الجواذب الأرضية.

 

أيها القادة والرؤساء والزعماء..

إن رمضان فرصة لتحرِّروا إرادتكم، وتتحلَّوا بأخلاق الصيام وشمائله، وتنحازوا إلى مصالح أمتكم وشعوبكم؛ كي تنالوا رضا ربكم وثقة شعوبكم وأمتكم، فإن ما عليه الأمة من ذلٍّ وهوان هو نتاج سياساتكم البعيدة عن مصالح شعوبكم والمؤْثرة للمصالح الخاصة على العامة؛ فعودوا إلى ربكم في هذا الشهر الكريم، وحرِّروا إرادتكم لله رب العالمين.. ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).

 

أيها الأحباب خلف الأسوار..

لقد ضربتم بثباتكم وصبركم- ومعكم أسركم وأبناؤكم- أعظم المثل في تحرير إرادتكم، وعدم تحكُّم أحد- أيًّا كان- فيكم، وواجهتم جميعًا ما أنتم فيه بعزم لا يعرف العجز ولا الهزيمة.. اعلموا أن المنهزم هو الذي لم يستطع أن ينال من إيمانكم وفكركم، وهؤلاء هم من ستخور إرادتهم إن لم يفيئوا إلى رشدهم، ويعودوا إلى طريق ربهم.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).

 

أعانكم الله على طاعته وبرِّه، وعجَّل لكم بفرجه القريب عاجلاً غير آجل، وخَلَفَكم في دعوتكم وأمتكم وأهليكم وأبنائكم وأموالكم بخير ما يخلف به عباده الصالحين.

 

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين، والله أكبر ولله الحمد.