التاريخ : الأربعاء 18 أغسطس 2010 . القسم : رسالة الأسبوع

رمضان شهر تحرير الإرادة والانتصار على النفس


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

 

فشهر رمضان هو شهر تحرير الإرادة الإنسانية، والانضباط الأخلاقي، والتخلُّص من الضعف النفسي والتراجع الروحي، والتعالي على الأنانية والفردية، وتجاوز التفرق والتشرذم إلى الوحدة والتعاون مع المخلصين للنهوض بالنفس, وبحاضر الأمة ومستقبلها، والعبور بها من حالة الوهن والتأخر والتخلُّف إلى القوة والسيادة والتقدم، وهو دورةٌ تدريبيةُ إصلاحيةُ ربانيةُ تشمل الأمة بمجموعها، تتلقَّاها الأمة شهرًا كل عام؛ لتصحيح المسيرة وتقويم العوج والانحراف، وهي مدةٌ كافيةٌ سنويًّا لغسل الروح، وتجديد الإيمان، وتزكية النفوس، والتسامي عن المادية الطاغية.. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).

 

ومتى صلح القلب انفتح باب الإصلاح العام "أَلا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله وإذا فسدت فسَد الجسد كله، ألا وهي القلب" (متفق عليه).

 

ومدرسة رمضان التربوية إنما تفتح سنويًّا لتتمَّ فيها عملية إصلاح هذا القلب، وقد كان لروحانيته العالية الفياضة أثرها الكبير في إصلاح النفوس وتجديد العزائم والإرادات، وتوحيد الأمة التي تصوم مع مطلع الفجر وتفطر مع مغرب الشمس، فتتوافق في عبوديتها لله مع الكون كله، وتلك هي مقدمة النصر في معارك الحياة المتجددة، ومن ثَمَّ رأينا انتصارات الأمة الكبرى في هذا الشهر، بدءًا من غزوة بدر يوم الفرقان وفتح مكة، وانتهاءً بمعركة العاشر من رمضان.

 

رمضان فرصة للمراجعة

إن رمضان فرصة مهمة لمراجعة النفس، على المستوى الفردي والجماعي، وعلى مستوى الأمة، ففي هذا الشهر بدأت رسالة الخير التي جاء بها رسول الإنسانية؛ محمد صلى الله عليه وسلم؛ داعية إلى مكارم الأخلاق، كالصدق والوفاء والعفو وكظم الغيط وحب الأوطان والتعاون الإنساني؛ لما فيه خير البشرية.

 

لقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الخاتمة لتجعل الإصلاح عنوانها الأساسي، والمسلم لا يُعَدُّ مسلمًا إلا إذا بدأ بممارسة هذه العملية ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:110).

 

القرآن دستورنا

هذا الإصلاح مستمدٌّ من القرآن العظيم، هذا الدستور الجامع الذي وضع الأصول العامة لحل المشكلات التي تواجه الناس، ودعا إلى تحقيق القيم الفاضلة التي تحتاجها النهضات ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9)؛ لأنه بإعداد المؤمن الصالح تتحقق له كل أسباب النجاح.

 

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ في عالم الضمير والشعور بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء وعمارة الحياة، معتبرًا إصلاح النفس وتحرير الإرادة الإنسانية المدخل الصحيح لإصلاح الأمم والشعوب.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

 

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في علاقات الناس بعضهم ببعض؛ بما يحقق التكافل الإنساني والتعاون البشري، ويقيم هذه العلاقات على أساس من العدالة الثابتة التي لا تتأثَّر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).

 

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في نظام الحكم بما يحقق العلاقة العادلة المتوازنة بين الحاكم والشعب، وفي نظام المال والاقتصاد بما يدفع عجلة التنمية والإنتاج، وفي نظام القضاء بما يحقق العدل الذي تستقر به الأحوال، وفي نظام التعامل الدولي بما يحقق التكريم اللائق بعالم الإنسان، ويحفظ لكل أمة كرامتها وخصوصيتها.

 

رمضان والمشروع الإصلاحي

إن رمضان فرصة للتذكير بالمشروع الإصلاحي الشامل الذي صارت أمتنا في أمسِّ الحاجة إليه في كل مؤسسات المجتمع، وفي هذا الصدد فإنني أذكِّر ببعض أهم ملامح هذا المشروع الإصلاحي:

1- أنه مشروع شامل لكل مناحي الحياة ، فهو يشمل الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والتعليمي والإعلامي، بعد أن استطاع المفسدون في الأرض- من خلال الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة- أن يشيعوا في الأمة اليأس والفوضى والرشوة والوساطة والمحسوبية، وأن يقزِّموا دور الأمة عالميًّا، ويهدروا كل مقومات النجاح والنمو لصالح مكاسبهم الشخصية والعائلية الضيقة.

 

2- أنه مشروع شامل لصالح كل فئات وطوائف الأمة، فلا يعمل لصالح فئة، ولا يصوغ الدساتير والقوانين لصالح طائفة، وإنما يصوغ للأمة كلها ويعتبرها وحدة واحدة، وإن اختلفت أديانها ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

 

3- أنه في حاجة لتضافر جهود جميع المخلصين من أبناء الأمة، فيشترك فيه غير المسلم مع المسلم والمرأة مع الرجل، باعتبار الجميع لهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات، ومن مصلحة الجميع تحقيق الإصلاح، ولا نجاح لمشروع الإصلاح الذي يريد نقل الأمة إلى مصاف الأمم المتقدمة إلا حينما يدرك كل إنسان أن عليه دوراً وأن عليه واجباً، وأن من الضروري إشعار المفسدين برفض فسادهم، والمواجهة العامة لكل ظواهر الفساد والانحلال في المجتمع.

 

أما حينما تتقوقع الأمة، وتصبح مجموعة من الإمَّعات، ويهتم كل فرد بنفسه، ولا يهمه أن يرى فسادا قائما، ولا يشغله أن يقوم عوجا حاصلا،  فسوف تغرق السفينة بمن فيها "‏مَثَلُ الْقَائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا على أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" (متفق عليه).

 

إن تحول أفراد الشعب- رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين- إلى فعاليات العمل العام واقتناعهم بضرورة المشاركة في الشأن العام وفي مؤسسات المجتمع المدني أحد أهم ركائز الإصلاح، وعلى عاتق الأحزاب والهيئات السياسية والنخب الفكرية والثقافية والتربوية وجماعات العمل العام يقع عبء توظيف كل الطاقات في الأمة وتفعيل الجماهير وبخاصة الشباب، للقيام بدورهم الطبيعي في الإصلاح.

 

وما لم نحمل قضية الإصلاح كلُّنا، أفرادا وجماعات، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، فإن الهلاك قادم لا محالة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود:117).

 

4- أنه منهجٌ سلميٌ يؤثر الوسائل الديمقراطية، ويتبنى النضال الدستوري سبيلا لا بديل عنه لتحقيق الأهداف الوطنية، ويرفض بكل حزم وإصرار خيار العنف أو العمل التآمري، وفي ذات الوقت يتصدى بكل عزيمة وبكل الوسائل القانونية والشعبية لمواجهة الاستبداد والطغيان وتزوير إرادة الأمة، ويقاوم بكل إصرار محاولات غرس اليأس والإحباط في نفوس الشباب.

 

هيا نتعاون على الإصلاح

من هذا المنطلق كان اجتماع الإخوان المسلمين مع قوى المجتمع الحية من الأحزاب والهيئات الوطنية والجمعية الوطنية للتغيير على مطالب الإصلاح السبعة المتفق عليها، ودعوة جماهير الأمة إلى التفاعل معها والمشاركة الجادة في التوقيع عليها، كمقدمة للإصلاح السياسي في مصر، ومن ثم كمدخل لعملية الإصلاح الشامل التي تتوق إليها جماهير الأمة، وسيبقى الإخوان المسلمون حريصين على التواصل مع كافة قوى المجتمع، وعلى إنجاح كل الجهود الرامية لتوحيد صفوف القوى الوطنية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وهم يعلمون تمام العلم أن طريق الإصلاح الحقيقى طويل يحتاج إلى صبر وتضحيات ، لكن أجر العاملين فيه جزيل ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (الأعراف: 170).

 

وإذ يأتي رمضان هذا العام ومصر مقبلة على انتخابات نيابية ومن بعدها انتخابات رئاسية، فإن كافة قوى الأمة السياسية والأهلية مطالبة بتفعيل هذا المشروع الإصلاحي، وبالتنسيق في المواقف؛ لإجبار النظام الحاكم على التجاوب مع مطالب الإصلاح والتغيير، وإطلاق المعتقلين السياسيين، وتدعيم الديمقراطية، والقبول بتحقيق ضمانات نزاهة العملية الانتخابية، وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، وتعديل المواد الدستورية المعيبة لفتح باب الترشح لكل راغب في خدمة هذا الوطن، وإعطاء الشعب وحده حق اختيار وتحديد من يقوده للمستقبل.

 

صبرًا أيها المجاهدون

أما أحبتنا خلف أسوار الظلم الذين يدفعون من أعمارهم وأموالهم وصحتهم ضريبة السير بمشروع الإصلاح والتغيير فنقول لهم: صبرا، فإن ليل الظلم قد آذن بزوال، وإن أمتكم لَتُقَدِّر وتُثَمِّن جهادكم وتضحياتكم في سبيل رفعة وطنكم، والله معكم بنصره وتأييده﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ (إبراهيم: 42) ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: 277).

 

والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.