التاريخ : الخميس 02 سبتمبر 2010 . القسم : رسالة الأسبوع

نفحات وعطايا رمضان


رسالة من أ. د محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومَن والاه، وبعد..

ما زالت الفرصة بين أيدينا

الحديث عن عطايا شهر رمضان لا تنقطع نفحاته، وها نحن في أيام الفرصة المتبقية من بركات الشهر قبل رحيله، في هذه العشر التي هي في ضيافة الرحمن، وإن أطلقوا عليها العشر الأواخر من رمضان، فهي في الحقيقة العشر الأوائل من سنةٍ جديدة، كلها رمضان؛ حيث فيها الاعتكاف والتماس ليلة القدر، وحضور ليلة المغفرة، وشهود يوم الجائزة.

 

فإلى نفحات الاعتكاف التي لا تُحصى؛ من حُسْنِ الصلةِ بالله، وحلاوة الإيمان، والنقاء والمغفرة، فليس الاعتكاف إلا في تحقيق مقصوده، كما أشار العلماء، والذي يتمثل في قول كل معتكف لربه: "لا أبرح عن بابك حتى تغفر لي".

 

وسيبقى اعتكافٌ آخر دائم بعد رمضان؛ ليس في أي مسجدٍ من مساجدنا، بل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي فيه الركعة بألف ركعة، وكل ذلك في مقابل السعي في مصلحة مسلمٍ من المسلمين، ولو لمدة بضع دقائق، قضاها الله أو لم يقضِها، كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

 

وإلى دعاء ليلة القدر؛ حيث العفو الشامل، وأنت في تهجدك تناجي الغفور: "اللهم إنك عفوٌ كريم تحبُّ العفو فاعفُ عني"، وحيث حياة التسامح والتغافر بين الناس، فإن كان من أجل اثنين يتلاحيان، أنسى الله نبينا ميعادها، لحكمة الله في أن تجتمع الأمة على الحُبِّ وتلمُّس الطاعة، وحيث المغفرة والتطهير، ففي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"، ورضي الله عن عمر بن الخطاب، حينما كان يفرح بعطايا رمضان، ويقول: "مرحبًا بمُطهرنا من الذنوب".

 

وإلى أيام يتروَّح فيها الصائمون نسائم سموِّ أنفسهم، وروائح صفاء قلوبهم، وروائع علوِّ أرواحهم، من بعد أن علموا أن الملائكة تساعدهم، وتستر عليهم عيوبهم، وتعينهم على الاستغفار والمغفرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا" (رواه أحمد).

 

وإلى ليلة المغفرة الشاملة، وهي آخر ليالي رمضان، روى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يغفر لهم في آخر ليلة فيه"، فقيل: أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا انقضى عمله"، فإلى انتهاز الفرصة، وإلا الندم على الخسران، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف عبد أدرك رمضان ثم انسلخ رمضان ولم يُغفر له" (متفق عليه).

 

فيا مَن أدرك رمضان..

إنَّ معك رصيدًا من الكنوز الغالية، فالمحافظة عليها واجب الوقت الآن، حتى لا تُسرق منا بعد رمضان، بل فاحرصْ على المزيد من هذه العطايا:

 

- مِن صيامٍ اختصَّه الله له في الجزاء والعطاء، يقول البيهقي: لا يأخذ أحدٌ شيئًا من أجر الصيام في ردِّ المظالم، دون سائر الأعمال والطاعات.

 

- ومِن أجورٍ بلا حسابٍ من الجواد الكريم على خصال الخير، التي فتح الله لنا أبوابها وأغلق عنا أشرارها.

 

- ومن حياة المتعة والفرحة اليومية من ترك القبائح والتزين بالسلوك القويم.. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

 

- ومن مصاحبةٍ للصيام بالنهار والقرآن بالليل، فهما من أخلص أصدقائنا؛ لأنهما الوحيدان اللذان يشفعان لنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة" (رواه أحمد).

 

- يقول كعب: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان ألا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألةٍ ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان، عصى ربه، فصيامه عليه مردود".

 

ويا أمتنا.. هيَّا ابدئي فرصتك

يأتي رمضان على عالمنا فينقلب إلى عالمٍ جديدٍ في كل شيء، على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، رغم جراحها في فلسطين والعراق وأفغانستان، وتستقبله بفرحةٍ قلبيةٍ رغم ما تعانيه شعوبها؛ من تآمر خصومها، وتكالب أعدائها، وجهالة أبنائها، وما ذلك إلا لما اختص الله تعالى به هذا الشهر الفضيل دون غيره من شهور العام، من عطايا ونفحات:

1- فلنعلنها توبةً مما نحن فيه..

وكأنَّ رمضان قبل رحيله يعلن على الملأ: هل أنتم مستعدون؟! يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ (التوبة: من الآية 46)، فماذا أعددنا؟! ها هي التوبة تُنادينا نداء القريب إلى قلوبنا لحياة جديدة ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: من الآية 31)، ونعني بها اليوم التوبة من حياة إلى حياة، ومن تفكير إلى تفكير، ومن آمال إلى آمال، فما أحوج عالمنا إلى الإسلام الحي في ضمائر أبنائه، رجالاً ونساءً، شيوخًا وشبابًا، كما كان في أذهان وقلوب الصحابة الكرام.. ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 29).

 

- فلنبدأها توبةً من حياةِ الهوان إلى حياةِ العزة، ومن حياة الواقع المرير إلى حياة استعادة الأمجاد، ومن حياة التواني والتراخي إلى حياة العمل والجهاد ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).

 

- ولنعلنها توبةً من التفكير المحبط إلى التفكير الإيجابي، في مواجهة الظلم والفساد والاستبداد، ومن التفكير اليائس إلى التفكير الدافع نحو تقديم التضحيات من أجل الأمن والأمان ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) (الأنعام).

 

- ولننشرها توبةً بين الناس، من آمال صغيرة وأحلام تافهة إلى الأمل الكبير والحلم العظيم، في التمكين لدين الله واستقرار العالم بالإسلام.. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (33) ﴾ (التوبة).

 

2- ولنجعلها حياةً نحو التغيير والإصلاح..

فالتغيير والإصلاح لا يتحققان إلا من هنا، باغتنام هذه النفحات والعطايا، في تزكية النفس وتطهيرها وتربيتها على الطاعة.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)؛ حتى يستشعر أفراد الأمة رقابة ربهم في كل حين، ويكثروا من ذكره، ويتلوا كتابه، ويدعوه في كل لحظاتهم، ويصحِّحوا مسارات حياتهم في المجتمع، معاملةً وخلقًا وسلوكًا، من البذل والجود والعطاء.. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) ﴾ (آل عمران).

 

3- وليكن عيدنا في التحرر أولاً..

فالحرية في مناحي الحياة كلها هي العيد الحقيقي، حرية الفرد من التبعية، وحرية الوطن من الهيمنة، وحرية الأمة من سطوة غيرها عليها، فحينما يعلن القلب عن عبوديته لربه يتحرَّر من الخضوع للإنسان، والركون لأية قوة سوى القويِّ القهار.. ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (هود: 113).

 

ثلاثون يومًا في رمضان، من أيام العتق والحرية، ترسِّخ في قلوبنا الاستقلالية، وتعمِّق في أرواحنا المسئولية؛ لنقف وقفة المارد ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8)، فتختفي الصور الكريهة من الاستبداد والظلم والتدليس والتلفيق والنهب والتضييق وتقييد الحريات والتزييف والتزوير.

 

4- ولنجعل أوجب واجباتنا من الآن:

- التخطيط والإعداد لحياة جديدة.. بخطة تليق بهذه الكنوز والعطايا، تترجم إلى برامج دقيقة للفرد والأسرة والمجتمع.

 

- الإرادة والعزيمة.. التي تدفعنا إلى العمل، والخروج من الضعف، ومقاومة الفتور، فعوامل النجاح كلها موجودة إن توفرت الإرادة.

 

- المزيد من الأعمال.. وذلك في المشاركات والإسهامات لإنقاذ أوطاننا، وفي المبادرات الخدمية، والمسارعات في اغتنام الأوقات؛ للخروج من الرتابة المقعدة عن العمل والداعية إلى الدعة.

 

نسأل الله كما سلَّمنا إلى رمضان، أن يسلم لنا رمضان، ويتسلَّمه منا متقبلاً، اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.