التاريخ : الخميس 23 سبتمبر 2010 . القسم : رسالة الأسبوع

واجب الأمة نحو القرآن الكريم


رسالة من: أ. د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين... أما بعد:

 

فإن القرآن الكريم هو الدستور الجامع لأحكام الإسلام، وهو المنبع الذي يفيض بالخير والحكمة على القلوب المؤمنة، وهو أفضل ما يتقرب به المتعبدون إلى الله تبارك وتعالى.

 

عن ابن مسعود- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فأقبلوا على مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمةٌ لمَن اعتصم به، ونجاة لمن اتبعه.." (رواه الحاكم).

 

لقد جمع القرآن الكريم أصول العقائد، وأوامر العبادات، وأسس المصالح الاجتماعية, وكليات الشرائع الدنيوية, فيه أوامر وفيه نواهٍ, وكلها لمصلحة البشرية دون تفرقةٍ بدين أو لون أو جنس أو طبقة أو لسان.

 

واجب المسلمين نحو القرآن الكريم:

يوضح الإمام البنا- رحمه الله- واجب المسلمين نحو القرآن الكريم فيقول: "وأعتقد أن أهم ما يجب على الأمة الإسلامية حيال القرآن الكريم ثلاثة مقاصد:

 

أولها: الإكثار من تلاوته، والتعبُّد بقراءته، والتقرُّب إلى الله تبارك وتعالى به.

 

وثانيها: جعله مصدرًا لأحكام الدين وشرائعه، منه تُؤخذ وتُستنبط وتُستقى وتُتعلم.

 

وثالثها: جعله أساسًا لأحكام الدنيا منه تُستمد وعلى مواده الحكيمة تُطبَّق.

 

لقد كان القرآن الكريم فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم، وكان واسطة العقد في الخطب والعظات فسار بواسطة العقد في الحلي والتميمات.. وإذا علمت هذا.. فاعلم أن الإخوان المسلمين يحاولون في جدٍّ أن يعودوا هم أولاً إلى كتاب الله، يتعبدون بتلاوته ويستنيرون في تفهم أقوال الأئمة الأعلام بآياته، ويطالبون الناس بإنفاذ أحكامه، ويدعون الناس معهم إلى تحقيق هذا الغاية التي هي أنبل غايات المسلم في الحياة.. فيكون بحق القرآن دستورنا ودستور الأمة".

 

وكان الإمام الشهيد حسن البنا يخاطب الإخوان المسلمين قائلاً: "أيها الإخوان: أنتم لستم جمعيةً خيريةً ولا حزبًا سياسيًّا ولا هيئةً موضعيةً لأغراضٍ محدودةِ المقاصد، ولكنكم روحٌ جديدٌ تسري في قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.

 

القرآن الكريم محفوظ في الصدور والسطور والعمل:

قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).. أنزل الله القرآن الكريم ليكون آخر الكتب المنزلة من السماء؛ لهداية البشرية إلى قيام الساعة، ومن ثَمَّ تعهَّد بحفظه، وتولَّى سبحانه صيانته، فلم يزل محفوظًا مصونًا من التحريف ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت).. وهذه وقعة تكشف هذا الحفظ، فعن يحيى بن أكثم قال: كان للمأمون مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي، فتكلَّم فأحسن الكلام، قال: فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا، قال: فتكلَّم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون وقال: ألستَ صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفتُ من حضرتك فأحببتُ أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاث نسخ فزدتُ فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتُريت مني، وعمدتُ إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ فزدتُ فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتُريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدتُ فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمتُ أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.

 

وحفظ القرآن الكريم يكون في ثلاث صور:

1- الحفظ في الصدور وهذا هو الأصل، ويتم بالتلقي مشافهةً، فقد قرأه أمين الوحي جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة رضوان الله عليهم، وتلقاه التابعون عن الصحابة، وهكذا سلسلة متصلة إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة.

 

2- الحفظ في السطور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين تنزل الآية أو الآيات يأمر كُتَّاب الوحي بأن يكتبوها في مكانها من السورة، وظلت صحائف موزعة إلى أن جمعها أبو بكر- رضي الله عنه- في مكانٍ واحد، ثم جاء عثمان رضي الله عنه من بعد ذلك فنسخ منها نسخًا ووزعها على الأقاليم.

 

3- الحفظ بالعمل: وذلك بأن يظل القرآن الكريم منهج حياة المسلم كفرد في نفسه وأسرته يطبق أحكامه يحل حلاله ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه وأخلاقه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم فقد سُئلت السيدة عائشة- رضي الله عنها- عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَىَ. قَالَتْ: "فَإِنّ خُلُقَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ" (صحيح مسلم).

 

ومن حفظ العمل على مستوى الدولة التي دينها الإسلام أن يكون أساس دستورها ومصدر تشريعها الأول، وميزان عدالتها في المحاكم، وأن يكون من ثوابت المناهج الدراسية في كل مراحل التعليم.

 

كما يجب عليها أن تعلم أن كل مادة في الدستور لا يسيغها الإسلام، ولا تُجيزها أحكامه يجب أن تُحذف منه، حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساس للدولة.

 

المنطلق الأساس لتحقيق التغيير المنشود:

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11). هذه الآية هي المنطلق الأساس لتحقيق التغيير المنشود، وبها تحقق الإصلاح في صدر الإسلام.. فإن المسلمين الأوائل في أقل من ربع قرن من الزمان، انتصروا على أعدائهم، وهم في ذلك لم يكونوا أكثر عددًا، أو أقوى عتادًا، ولكنه القرآن الكريم الذي نزل به الروح الأمين على قلب الصادق الأمين، فقرأه صلى الله عليه وسلم على أصحابه فسرى في شرايينهم روحًا جديدةً، وجعل منهم خلقًا آخر، لا غاية لهم إلا مرضاة الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (البقرة: من الآية 207). هؤلاء تغيَّرت نفوسهم فتحطَّمت بداخلها الأصنام التي كانوا يعكفون عليها، وآمنوا بإله واحد، لا يعبدون سواه، ولا يخضعون لغيره، ولا يخشون سواه، وصارت الدنيا عندهم لا تعدل جناح بعوضة، وأضحت الآخرة هي مسعاهم ومبتغاهم بموجب هذا العقد: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: من الآية 111).

 

وما يقع في غزة من صمود وعزة، سره الأول روح القرآن الكريم التي سرت في نفوسهم فاستمدوا القوة من الله، وتسلَّحوا بالصبر والثبات النابعين من القرآن الكريم الذي جدد إيمانهم، وبهذا الإيمان لم يعترفوا بإسرائيل، ولم يخافوا من أمريكا، ولم يرهبوا كثرة وقوة دعاة الاستسلام، وأبوا إلا أن يستردوا حقهم كاملاً، ويستعيدوا أرضهم كلها، وما ضعفوا وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله، وما أجمل أن يردوا على مَن أراد أن يحرق نسخًا من المصحف مطبوعة على الورق بأن يطبعوا ستين ألفًا من نسخ القرآن الكريم المطبوعة في الصدور.

 

وكيف لا! وهو سر ثباتهم وصبرهم، وأساس صمودهم، ومنبع القوة في مواجهة عدوهم، والسبيل الوحيد لنصرهم على اليهود ومن والاهم وناصرهم.

 

وهكذا يجب أن يكون ردنا على مَن ينالون من كتاب الله أو من رسول الله رضي الله عنه بالإقبال على كتاب الله حفظًا في الصدور ومنهجًا في الأخلاق، ومظلة للبيوت والأسر، وبالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في عبادته وأخلاقه ومعاملاته وسير على خطاه في كل مناحي الحياة.

 

علل الأمة ودواؤها:

والمتأمل في علل الأمة الإسلامية، يرى أن علة عللها هي الرضا بالحياة الدنيا، والاطمئنان بها، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة، والتبذير الزائد في الحياة، فلا يقلقه فساد، ولا يزعجه انحراف، ولا يهيجه الظلم المستشري، ولا يهمه غير مسائل الطعام واللباس.. والبلسم الشافي، والدواء الناجع لتلك العلل، لا يكون إلا بتأثير القرآن والسيرة النبوية إن وجدا إلى القلب سبيلاً؛ لأنهما يحدثان صراعًا بين الإيمان والنفاق، واليقين والشك، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة، وبين راحة الجسم ونعيم القلب، بين الحق والباطل، بين العدل والظلم.

 

وهذا الصراع أحدثه كل نبي في وقته، ولا يصلح العالم إلا به، وحينئذٍ تهب نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد، لا يشبه العالم القديم في شيء.

 

وهذا الأثر الطيب المبارك لا يتحقق في الواقع إلا إذا تدبَّر المسلمون معاني القرآن الكريم ووقفوا على أحكامه، واقتفوا آثار نبيهم بتخلقهم بالقرآن، وتأثروا بذلك في نفوسهم وحياتهم، وليعلم المسلمون أن تأثير القرآن الكريم في نفوس المؤمنين بمعانيه لا بأنغامه، وبمَن يتلوه من العاملين به، ولقد زلزل المؤمنون بالقرآن الأرض يوم زلزلت معانيه نفوسهم، وفتحوا به الدنيا يوم فتحت حقائقه عقولهم، وسيطروا به على العالم يوم سيطرت مبادئه على أخلاقهم ورغباتهم، وبهذا يعيد التاريخ سيرته الأولى، وقد شبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن الذي لا يقرأ القرآن بالتمرة لا رائحة لها في مقابل الأترجة المؤمن الذي يقرأ القرآن ويُؤثِّر فيمَن حوله برائحته ورائحة عمله الطيبة.

 

إن إحياء معاني القرآن الكريم في النفوس، وتحويله إلى واقع حي متحرك، ودفع الجيل القادم من الشباب في العالم الإسلامي أن يتنافسوا في حفظ القرآن الكريم في صدورهم، وظهور أثره على جوارحهم وأخلاقهم وجميع شئون حياتهم، يبشر بغدٍ مشرق، ومستقبل واعد، فإن من نشأ في صغره على حفظ كتاب الله حفظه الله، وجعله معين خير، ومصدر إسعاد لمَن حوله، وحينئذٍ ينعم الجميع بالأمن والأمان.

 

ونحن ننادي بما صدع به الإمام البنا منذ عشرات السنين، ولا يزال صداه يتردد في أرجاء المعمورة: يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان مَن يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًّا فنحن أعرق الناس- والحمد لله- في السياسة، وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسةً، فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات.

 

ويقول رحمه الله: لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية من الإيمان بالله، والزهادة في متعة الحياة الفانية وإيثار دار الخلود، والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق، وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله على هدى القرآن الكريم.

 

فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم، أصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلى الخير.. ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).

 

نحن أيها الناس- ولا فخرَ- مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه، وناشرو سنته كما نشروها، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا، ورحمة الله للعالمين ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)﴾ (ص).