التاريخ : الخميس 10 مارس 2011 . القسم : رسالة الأسبوع

واجبات الشعوب في صناعة النهضة


 

رسالة من: أ. د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد...

على الشعوب أن تلحق بركب الحضارة

إنَّ من فضل الله على هذه الأمة أن تنتفض شعوبها وتتحرك في ثورات بيضاء؛ لتلج إلى عالم الحضارة والتنمية والتقدم، وهي بذلك تتخطى مرحلة "الوهن الحضاري" التي أخبر عنها الرسول العظيم بقوله: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم....."، وعلاج هذا الوهن لا يكون إلا بإعادة بناء شخصية الإنسان والارتقاء بها إلى مستوى الإنتاج، وليس الاستهلاك والتركيز على إنسان الواجبات لا إنسان الحقوق.. إنسان البقاء والخلود بالعمل الجاد لا إنسان الزوال والاستمتاع بالشهوات والاستهلاك، الإنسان الذي يدرك مدلول قول الله تعالي: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)﴾ (التوبة).

 

ورغم ما تعانيه الشعوب الآن من عدم استقرار ونهب منظم لثرواتها، وما ترزأ به من ضغوط خارجية وداخلية من بقايا الفساد ودعاة الفتن، فلا بد أن تلحق بالمستقبل، وأن تستشرف آفاقه من خلال المبادئ والأسس العلمية، وهذا الطريق المأمول للنهضة الشاملة يستدعي الاعتماد بعد الله على الذات والمزاحمة على الغد، ويفرض علينا الدعوة إلى التنمية والإعداد والتدريب والعمل والإتقان، وتأهيل الطاقات البشرية وتوظيفها حتى تلحق بركب الحضارة.

 

الحرية فوق المطالب الفئوية

لقد أثبتت جماهير ثورة 14 يناير في تونس و25 يناير 2011م في مصر أنهم جديرون لقيادة النهضة وتحقيق التغيير الذي طال انتظاره، بعد أن كانت هذه الشعوب متهمة بالسلبية والخنوع، وأنها لا تتحرك إلا من أجل الخبز ولقمة العيش، فأثبتت هذه الجماهير بثورتها الناضجة عكس ذلك، وسجَّل المتخصصون في علم النفس السياسي أن الشعوب العربية تتجاوز ذاتها، وتهتم بالحرية والتحرر من ربقة الظلم والفساد قبل كل شيء، ولقد تغيرت قناعات الجماهير لتنتقل من الشعور بالعجز إلى الإيمان بإمكانية الفعل، والانتقال من موقف المتفرج إلى موقف الفاعل، وتصرفت طوال أيام الثورة بصورة حضارية سلمية أذهلت العالم.

 

شروط نهضة الأمم

وإذا كان بعض الناس ما زالوا يحبون أن يعيشوا معيشة الراحة والهدوء والاستكانة برغم ما يحيط بهم وشعوبهم من نهب واستنزاف لثرواتهم، ورغم ما يهدد بلادهم من أخطار، وما يكتنف مستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم وأوطانهم من ظلمات، وحسبهم من الدنيا أن يبحثوا عن الطعام والكساء، فإذا وجدوا من ذلك ما يسد الرمق ويواري السوأة، فقد وجدوا أصول الحياة واستغنوا عن فضولها وتلك هي الطامة الكبرى، فلا يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها، بل أمة كريمة على الله أورثها كتابه، وكلَّفها أن تعمل به، وأن تدعو الناس إليه، وما أروع ما قاله الإمام البنا في ذلك: "إن بناء الأمم وتربية الشعوب ومناصرة المبادئ وتحقيق الآمال يحتاج من الأمة التي تسعى إلى ذلك إلى إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، وتلك هي شروط نهضة أي أمة من الأمم, وأي شعب يفقد هذه الصفات فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جوٍّ من الأحلام والظنون والأوهام ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس: من الآية 36)، وهذا قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

 

الشباب وصناعة النهضة

شباب الأمة هم مصدر قوتها، وصُنَّاع مجدها، وصمام حياتها، وعنوان مستقبلها، فهم يملكون الطاقة والقوة والحماسة، وإنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووُجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل، من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان القلب الزكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب، ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كلِّ أمة عماد نهضتها، وفي كلِّ نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾ (الكهف).

 

ومن ثم يجب فتح المجال أمام الشباب للمشاركة في المشروع النهضوي الإصلاحي للأمة، بحيث يستوعب طاقاتهم، وتتحقق به أمانيهم، وتُستغل فيه أعمارهم وأوقاتهم، وبذلك يتحولون إلى الإيجابية، ويغادرون السلبية واللامبالاة.

 

ومن هنا ندعو المفكرين والسياسيين والعلماء والهيئات والجمعيات للجلوس مع الشباب، والاستماع إلى آرائهم، وتنمية مهاراتهم؛ ليشاركوا في حلِّ مشكلات الأمة، ويأخذوا زمام المبادرة في النهوض بها، وعلى قيادات الأمة في مختلف المجالات وعلى كل المستويات أن تُسند إلى الشباب بعض المسئوليات، وإعطائهم الصلاحيات التي تجعلهم يتحركون في حرية، ويخرجون طاقاتهم وعلمهم لخدمة أوطانهم.

 

الحذر من مخططات الداخل والخارج

إذا كنا نَحذَر من الأدعياء والانتهازيين وفلول النظام السابق من جهاز أمن الدولة والحزب الذي كان يتحكم في حريات الناس الذين يحاولون الالتفاف والقفز على الثورة في مصر، وكذلك في تونس واختطافها، فإن ما يُخطط له حلفاء الخارج لا يقل خطورة، ولعلَّ المحاضرة التي ألقاها "آفي ديختر" وزير الأمن الداخلي للصهاينة في سبتمبر عام 2008م والتي شرح فيها موقف إسرائيل من المتغيرات المحتملة في مصر تكون ذات أهمية بالغة الآن بعد نجاح ثورة الشعب.

 

لقد أكد "ديختر" (إن الدولة العبرية على تنسيق مع الولايات المتحدة؛ لمواجهة أي طارئ، بما في ذلك العودة إلى شبة جزيرة سيناء، إذا استشعرنا أن تلك التحولات خطيرة، وأنها ستحدث انقلابًا في السياسة المصرية تجاه إسرائيل, وأضاف أننا عندما انسحبنا من سيناء، فإننا ضَمنَّا أن تبقى رهينة، ويختم محاضرته بقوله: (إن القاعدة الحاكمة لموقف الدولة العبرية هي أن مصر خرجت من ساحة المواجهة مع إسرائيل ولن تعود إليها مرةً أخرى، وهي قاعدة تحظى بدعم الولايات المتحدة).

 

وحيث إن ثورة 25 يناير في مصر وقبلها ثورة الشعب التونسي جاءت لأعداء الأمة من الصهاينة وحلفائهم من حيث لم يحتسبوا، فإن من حقِّ الشعوب أن تعرف ما يجري الآن، وحقيقة الدور الذي يقوم به الصهاينة وأعوانهم في الخفاء وبعيدًا عن الأعين، ومن ثَمَّ فيجب الحذر من المخططات التي تعمل ليلَ نهارَ لإجهاض حركة الشعوب، وتثبيت دعائم الطغيان بصورة أو بأخرى.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).