التاريخ : الخميس 07 ابريل 2011 . القسم : رسالة الأسبوع
عصر الشعوب الراشدة
رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد..
فإن الناظر في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية يجد أنها بدأت نهضتها بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أمةً راشدةً، آمرةً بالمعروف، ناهيةً عن المنكر، داعيةً إلى الخير، محققةً للعدالة والحرية والمساواة، راقيةً بالأخلاق والسلوك، محققةً للحياة الكريمة لكل أجناس البشر على ظهر هذه الأرض.
وامتدَّ هذا النور النبوي إلى دولة الخلافة الراشدة، والتي قامت على الانتخاب الحر والشورى الخالصة لحكام راشدين وأمة واعية، يخاطب الحاكم شعبه بعد أن استمدَّ شرعيته منه ومن إرادته الحرة "وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوُّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعةَ لي عليكم".. فكان ردُّ فرد من الأمة "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحدِّ سيوفنا"، ويكون تعقيب الحاكم: "الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَن يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه".. فهي أمة من الرجال العظام، يحكمها رجل عظيم، فنعمت الأمة، ونعم الحاكم، ونعم معاونوه.. وبديهي أن تسود هذه الدولة المباركة ويمتد ملكها في آسيا وأفريقيا ليطوي تحت لوائها ملك كسرى وقيصر.
ثم كانت دولة الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية التي بلغت فيها الحضارة الإسلامية أوج عظمتها وانتشر الإسلام ليصل إلى حدود الصين وأواسط أوروبا وينتشر نور العلم من الأندلس ليضيء ظلام التخلف الذي شمل تلك القارة في العصور الوسطى.. فقد كنا في هذا العصر الأمة الأولى أو (العالم الأول) يقتبس منا الآخرون نور الحضارة وينابيع العلم ومكارم السلوك ومحاسن الأخلاق.
ثم كان الانحدار والهبوط.. والذي كان من أهم أسبابه الانحراف عن مبادئ الشورى والحرية والعدل وما تبعه وصاحبه من الغرق في الملذات والشهوات ونسيان المبادئ العليا التي بها تحيا الأمم وتنهض الشعوب.
أسباب الانهيار
نعم.. بدأ هذا الانحراف بالتحول إلى الملك العضوض وإلى توريث الحكم.. بدأ هذا الانحراف طفيفًا ثم توسَّع وتعمَّق حتى وصل إلى سدة الحكم مَن لا يحسن سياسة ولا يستمع لشورى ولا يحترم إرادة الأمة.. علا صوت الملوك والأمراء وأعوانهم، وخفت صوت الشعوب والأمم، وكان أن ضعفت الدولة الإسلامية، ومزقتها الأهواء والخلافات والنعرات، وأصبحت فريسةً سهلةَ المنال للقوى الاستعمارية الطامحة والحاقدة والمتربصة منذ أمدٍ بعيد نتيجة ترك منهج النبوة.
وقع أغلب العالم العربي والإسلامي تحت براثن الاحتلال الأجنبي الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والهولندي.. وكانت سنوات مريرة من القهر والاستعباد ونهب الثروات وإهدار المقدرات وإنهاك القوى وإفساد التعليم وتغريب الثقافة وإشاعة الفاحشة وتدمير الأخلاق.. ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)﴾ (الطلاق).
ثم كانت حركات التحرير في أرجاء العالم العربي والإسلامي.. كانت كلها في بداياتها من منطلقات إسلامية، من منطلق وجوب الجهاد لتحرير الأرض وإنقاذ الشعوب ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)﴾ (الأنفال)، ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)﴾ (النساء).
ونجحت معظم هذه الحركات التحررية بفضل هذه الروح الإسلامية، ونالت معظم الدول العربية والإسلامية حريتها واستقلالها، لكن هذه الثورات الإسلامية سُرقت على مدى الأيام هويتها وخفتت روحها ليتم تحويلها إلى حركاتٍ قومية انفصالية متنازعة متنافرة.
وتم تقديس الطبقة الحاكمة وتأليه الحاكم المستبد (فهو الزعيم الأوحد والقائد الملهم والعبقري الفذ وملك الملوك وشاهنشاه).. كل ذلك على حساب الشعوب التي تم قهرها واستعبادها وإذلالها بنظم بوليسية حديدية كانت أعتى وأظلم من الاحتلال الأجنبي الذي تخلصت منه بعد جهادٍ مرير.
وهكذا تحول (الملك العضوض) إلى (ملك جبري) أي دكتاتوريات عسكرية حكمت الشعوب بالحديد والنار، فرَّقت الأمة وأهدرت القوى ونهبت الثروات، وأنهكت المقدرات في معارك جانبية وحروب خاسرة للطرفين، تارةً بين مصر واليمن، ثم العراق وإيران، ثم العرق والكويت، والجزائر والمغرب.. وصارت كل الدول العربية والإسلامية، على الرغم من استقلالها الظاهري، تابعةً للقوى الاستعمارية الكبرى شرقًا وغربًا وبلغت في التخلف أن عدت في ذيل الأمم (العالم الثالث) كما يقولون، وظهر العدوان الصهيوني كورمٍ خبيثٍ في جسدٍ منهكٍ مريض، ليلتهم بقعةً من أقدس بقاع العالم الإسلامي؛ فلسطين الحبيبة والقدس الشريف والمسجد الأقصى.
من هنا نبدأ
ثم شاءت إرادة الله الغالبة الرحيمة- وبعد جهادٍ مريرٍ وتضحيات جسام للمعارضين الشرفاء والدعاة المخلصين- أن تنتفض الشعوب في ثورات مباركة مبهرة للعالم كله.. بدأت بثورة تونس الخضراء ضد نظامٍ مستبدٍّ وحكمٍ بوليسي غاشم، ثم ثورة مصر المباركة التي أنهت أكثر من ثلاثين عامًا من الذل والقهر والتخلف والإقصاء عن قضايا الأمة التي كانت يومًا زعيمةً وقائدةً ورائدةً لها.. ثم تشتعل الآن في ليبيا واليمن وسوريا.
إنه عصر الشعوب بعد طول صبرٍ وعذاب، لتعود إلى مكانتها وتسترد حقوقها من مغتصبيها وتسترد حريتها وكرامتها.
إنه عصر الشعوب الحرة التي تتهيأ من جديدٍ للحياة الراشدة والمكانة العالية، لتعود مرةً أخرى ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 110)، قائمةً بالحق، آمرةً بالمعروف، ناهيةً عن المنكر.. بعد أن حطَّمت قيودَ الذل والاستعباد.
إن أول مراحل النهوض والإصلاح هو إصلاح النفوس ثم إطلاق الحريات والإصلاح السياسي الذي يُنظم شئون الحياة بأسرها ويحدد أن الأمة هي الأصل والأساس؛ فهي مصدر السلطات، وهي صاحبة المصلحة العليا، وأن الحاكم والحكومة وكلاء عن الأمة في الإدارات العليا، فهم موظفون مسئولون أمام مَن اختارهم اختيارًا حرًّا شريفًا، باقون في أماكنهم ما أثبتوا كفاءتهم وأمانتهم.. فإن تبيَّن غير ذلك تم تغييرهم بمَن هم أصلح منهم، فالأمة أكبرُ من الحاكم، والشعوب أبقى من النظم.
وسيتبع هذا الإصلاح السياسي بإذن الله إصلاح في كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدفاعية.. بتولية الأصلح والأكفأ، كلٌّ في مجاله وتخصصه، كي تنطلق الأمة نحو الإبداع والتنمية والحضارة والسبق لتتبوأ مكانتها من جديد.
إن العصرَ القادمَ هو عصر الشعوب الراشدة، المهتدية برسالات السماء، القائمة بالحق والعدل والحرية والمساواة، المحققة لرسالة الإنسان في هذه الأرض ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: من الآية 30)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
إن بشريات النصر تلوح بالأفق، بعدما أشرقت شمس الحرية على ربوع العالم العربي والإسلامي مؤذنةً بعهدٍ جديدٍ ينعم بالحرية والعدل والإخاء واحترام حقوق الإنسان، يُخلِّص البشريةَ من عذاباتها وآلامها، ويحقق طموحاتها وآمالها ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية ٢١)، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.