التاريخ : الخميس 26 مايو 2011 . القسم : رسالة الأسبوع
يومٌ من أيَّامِ الله
رسالة من أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
كان يومًا حافلاً من أيَّام الله تعالى.. يوم افتتاح المركز العام الجديد للإخوان المسلمين في جبل المقطم بالقاهرة، يوم السبت 18 جمادى الآخر 1432هـ، الموافق 21/5/2011م، بعد شهورٍ قلائل من ثورة الشعب المباركة، التي تخلصت فيها مصر من منظومة القهر والطغيان والتخلف والفساد، والتي حكمت البلاد أكثر من ثلاثين سنة، بل في الحقيقة ستين سنة منذ قيام ثورة يوليو 1952م، ثم الانحراف بها عام 1954م.
حضر الحفل المبارك الآلاف من رجال وشباب ونساء الإخوان المسلمين من جميع أنحاء القطر المصري- رغم تحديد العدد لمحدودية المكان- بل حضرت وفود من أنحاء العالم... من السودان وفلسطين والأردن والسعودية وتركيا وأفغانستان وماليزيا والنمسا واستراليا... وحضرت أطياف متعددة من كلِّ طوائف الشعب العظيم، وحضرت وكالات الأنباء والفضائيات العالمية والمحلية لتغطية هذا الحدث الكبير؛ ليتابعه الملايين في أنحاء المعمورة.
كان يومًا من أيَّام الله تعالى.. التي تظهر فيها قدرة الله واضحة جلية، فيما يشبه المعجزات، كما قال الله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾ (إبراهيم)، فلا يستشعر عظمة هذه الآيات إلا مَن ذاق مرارة الصبر على مر الشهور والسنين، ثم ذاق حلاوة الشكر بعدما توالت النعم، جزاءً وفضلاً من الغفور الرحيم.
لقد شهدت هضبة المقطم بدايات الجهد لإيقاظ الأمة، وإنقاذ شبابها وإحياء إيمانها، قادها الإمام البنا وهو يقيم الكتائب والمخيمات والمعسكرات لجيل جديد من الشباب الطاهر العابد المجاهد، ويسهر معهم طوال الليل يتلو عليهم آيات الله، ويربط قلوبهم بالله تعالى، ويفتح آفاق فكرهم على عظمة الكون وجلال خالقه، ويذكرهم بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم، ويُعِدُّهم لجهاد مرير لمقاومة المحتل، ومواجهة اليهود الغاصبين.
ثم جاءت المحن والشدائد- وهي سنة من سنن الله للتمحيص والاختبار- لا مناصَ منها للدعوات الصادقة، وتأتي أيام الصبر المريرة، ويشهد جبل المقطم دفنًا لأجساد الأطهار من شهداء التعذيب في سنوات القهر، والتي سجلها الشيخ القرضاوي في نونيته الشهيرة:
سل (المقطَّم) وهو أعدلُ شاهدٍ كم من شهيدٍ في التلالِ دفينِ
سحقًا لجزارين كم ذبحوا فتًى مستهترين كأنه ابن لبون!!
فإذا قضـى ذهبـوا بجثته إلى تل (المقطم) وهو غيرُ بطينِ
أخفَوْهُ عن عين الأنام وما دَرَوْا أن الإله يحوطهم بعيون
والليل يشهد والكواكب والثرى وكفى بهم شهداءَ يومَ الدينِ
وتمر سنوات طوال، والرجال الذين ربَّاهم على طاعة الله والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكفون عن إبلاغ الدعوة، ونشر الدين، وإشاعة الفضيلة، مهما لاقوا من عنت وظلم واضطهاد وإقصاء من طغاة ظالمين، وحكام فاسدين، أضاعوا البلاد، وأنهكوا العباد، وخانوا شعوبهم، وحالفوا الأعداء، وتقاسموا ثروات الشعب، وجعلوها ملكًا لهم، يتوارثونها جيلاً عن جيلٍ، وظنوا أن مقاليد الأرض قد دانت لهم، وبلغ بهم الغرور والكبر أن توعَّدوا مخالفيهم أن يكون هذا العام 2011م عام الحسم والاستئصال لكلِّ المعارضين، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون.
فإذا بإرادة الله الغلاَّبة تجعل هذا العام عام النصر للمستضعفين، وعام الهلاك للطغاة الظالمين ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص).
توالت نعم الله تعالى في فترة قياسية، ليتحقق ما كُنَّا نأمله في سنوات طوال:
1- تمت الإطاحة برءوس النظام الفاسد كله، من كان يريد التمديد، ومن كان يتطلع إلى التوريث، وكل بطانة السوء التي شاركت في النهب والسلب والتجبر والطغيان.
2- تمَّ حل المجلسين المزورين (مجلسي الشعب والشورى)، وكان قد تمَّ إقصاء كل الإخوان المسلمين من ممثلي الشعب الحقيقيين مع المعارضين الوطنيين، في سابقة تزوير صارت فضيحة في العالمين.
3- تمَّ حل الحزب الوطني الفاسد، وإغلاق- بل حرق- كل مَقَرَّاته التي طالما كانت أوكارًا للفساد والإفساد، وملجأً وملاذًا لكلِّ المتآمرين على الشعب وناهبي ثرواته.
4- تمَّ حل جهاز أمن الدولة، الذي بلغ المدى في الظلم والجبروت والاضطهاد والقتل والتعذيب، وتخريب البلاد، واضطهاد الشرفاء، وإحباط الكفاءات.
5- تمَّ تحرير وإطلاق سراح الشرفاء الذين غيبتهم محاكم الظلم المؤتمرة بأمر النظام المخرب، بعد سنوات من المعاناة والقهر والألم والإبعاد.
ومن النعم التي تستوجب دوام الشكر، أن يتم هذا كله في أيام قلائل، وأن تكون الثورة سلمية، على أعلى درجة من الرقي والحضارة، شارك فيها كل فئات الشعب المصري، رجالاً ونساءً، شبابًا وشيوخًا، أقباطًا ومسلمين، وأن ينحاز الجيش إلى جانب الشعب، فلا تُراق دماء، إلا دماء الشهداء الأطهار الأبرار الذين قتلهم جنود النظام الفاسد وأعوانه من البلطجية والخارجين عن القانون.
وها نحن نشهد تحرير الشعب كله، وانطلاقه بعد أن تحرر من قيوده، ومشاركة كل القوى في مشاريع البناء والنهضة... وها نحن نفتح مقرَّاتنا من جديد، في كلِّ شبر من هذه البلاد الطاهرة؛ لتكون ملاذًا وموئلاً لكلِّ طوائف الشعب؛ للتشاور والتناصح والعمل والجهد.
وإن من شكر هذه النعم، أن نحافظ عليها بوحدة الصف، وتوحيد الجهود، ودراسة المشاكل، ووضع الخطط، وابتكار الحلول، والمبادرة إلى العمل، وتشجيع الجميع على المشاركة الفَعَّالة، بعد أن عادت مصر إلى شعبها، وعاد الحق إلى أصحابه الحقيقيين.
ومن نعم الله علينا، أن تعود مصر إلى مكانتها في العالم العربي والإسلامي والإفريقي، بل في العالم كله الذي وقف يشاهد أعظم ثورة في التاريخ الحديث، ويشهد لشعبها بالرقي والحضارة، بل ويستلهم من شبابها قدوة ومثلاً يتمناها لشبابه.
ومن نعم الله علينا أن يشهد مقرُّ الإخوان المسلمين الجديد بالمقطم اجتماع كل الفصائل الفلسطينية، وأن يتم الوفاق بينها في أربعة أيام فقط، بعدما عزَّ الوفاق عليها أربعة أعوام، في ظلِّ النظام البائد، الذي كُتب عليه الفشل في كل شيء، والذي أثبت أنه كان يحكمنا لحساب أعدائنا، حتى قال عنه رئيس الكيان الصهيوني: (إنه كان يمثل كنزًا إستراتيجيًا لإسرائيل).
ومن شكر هذه النعم، الحفاظ على مكاسب الشعب، والدفاع عنها، وحراستها ضد فلول النظام البائد ومؤامراته ودسائسه، وأن نكون على أعلى درجات اليقظة لاستئناف الثورة لو وجدنا أدنى تهديد لها، مهما كلفنا ذلك من جهود وتضحيات.
هاكم المقر الجديد لجماعة الإخوان المسلمين، دعوة الحق والقوة والحرية، يفتح مصراعيه لكلِّ طوائف الشعب العريق، يشع النور، ويبذر الخير، ويبشر بفجرٍ جديد، يتعاون فيه الجميع على نهضة الأمة ورقيها وحضارتها ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)﴾ (الروم).