التاريخ : الخميس 30 يونيو 2011 . القسم : رسالة الأسبوع
الأمة والمعراج إلى السماء
رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه.. وبعد،،
لم يُتح لبشرٍ في تاريخ البشرية كلها ما أُتيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخترق حُجُبَ الحياة الدنيا إلى مدارج الآخرة، وأن ينتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ويرى بنفسه- وبعيني رأسه- ما جاء خبرًا أو سماعًا في الرسالات السماوية كلها.. ثم يعود مرةً أخرى ليقصَّ على البشر ما رآه رأي العين مؤكدًا بقسم رب العزة (مَا زَاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى (18)) (النجم).
لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج كرامةً لنبيه صلى الله عليه وسلم وتسريةً عنه، ورفعةً لشأنه، وتطييبًا لخاطره.. بعد جهدِ شاقِ، وعمل دءوبِ لدعوة الناس وتبليغًا لشريعة ربهم.. لاقى فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من العنت والإرهاق والعناد والتكذيب، والمكر والكِبر ما لا يتحمله بشر، وخُتمت هذه الفترة بعام الحزن الذي فَقَدَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الكريمة خديجة رضي الله عنها وعمه الشهم أبا طالب، وتكالب عليه السفهاء حتى عاد من الطائف دامية قدماه، حزينًا قلبه، حتى لهج بالدعاء الخاشع "اللهم إنّي أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوِ ملكته أمري؟.. إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي.. غير أن عافيتك هي أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلَّ بي غضبك، أو أن ينزل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج بيانًا لحول الله وقوته، حينما تتعطل القوانين المادية، وتتجلى طلاقة القدرة الإلهية.. فلا تقف حواجز الزمان والمكان أمام الإرادة الإلهية والمشيئة الربانية، وهذا هو المعراج الحقيقي الذي يتطلب منا ضرورة الالتجاء لله سبحانه وتعالى وإحسان الصلة به والإكثار من الأعمال الصالحة وأداء العبادات بمعانيها الحقيقية والاهتمام بقضايا الأمة وشئونها؛ كل ذلك وغيره يعرج بنا لنستحق دعم الله وعونه ومدده.
إن الذي ضاقت به الأرض تفتحت له أبواب السماء، وإن الذي تعرَّض للإهانة والأذى من شرار قومه رأى التكريم والتعظيم في السموات العلى حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وإن الذي أعرض عنه كبار قومه صلَّى خلفه جميع الأنبياء والمرسلين، جمعهم الله تعالى بقدرته المطلقة في مكانٍ واحد، وزمانٍ واحد.. فأعلنوا إمامته للدين وختامه الكريم لرسالات المرسلين، وتحميله الأمانة وتبليغ الرسالة، وفي هذا إشارة لمسئولية الأمة من بعده.. (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية 143).
لقد تحدثنا في رسالةٍ سابقةٍ عن رحلة الإسراء، والحكمة التي جمعت تلك البقاع المقدسة بين مكة والقدس- في جزيرة العرب والشام في مهابط الوحي ومطالع النور- يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يتسلَّم مفاتيح القيادة للرسالات السماوية كلها، فهو وريثها وخاتمها والأمين عليها إلى قيام الساعة.
ثم تأتي رحلة (المعراج).. لتثبت عمق الصلة بين الأرض والسماء، بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين عالم المادة وعالم الروح، وما الحياة الدنيا بكل ضجيجها وأحداثها وأفراحها وأتراحها إلا مرحلة واحدة قصيرة، قصيرةٌ إذا قٌورنت بالحياة الآخرة التي لا نهايةَ لها.. (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) (الرعد: من الآية 26)، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم: من الآية 55).
ولئن كنا مطالبين- شرعًا- بالسعي والبذل، والجهد والابتكار، والعمل الصالح في الحياة الدنيا، فإننا نبتغي من وراء ذلك حسن الجزاء وواسع العطاء والنعيم الخالد في (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: من الآية 133).
إن طغيان المادة في عصرنا هذا- وفي عصور كثيرة خلت- جعل كثيرًا من الناس لا يهتمون إلا بلحظاتهم الحاضرة، ومتاعهم العاجل.. (مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية 24)، ومن ثمَّ تكالبوا في جلب المتاع من حلالٍ أو حرام، عن طريق العمل والكدح أو الاغتصاب والسلب (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21)) (القيامة).
وانتهى هذا التكالب إلى أن تحولت الحياة البشرية إلى غابة وحوش.. يجور فيها القوى على الضعيف، ويعتدي الكبير على الصغير، ويزداد الغني فحشًا والفقير مهانةً وفقرًا، ويتصارع الجميع لنيل المتاع بلا ضوابط أو حدود.. فتنتهك الحرمات وتضيع الحقوق وتتحطم الكرامة وتنحدر الأخلاق، وتُدمَّر الإنسانية بأسرها، ويعيش الناس في شقاءٍ لا نهايةَ له، بعد أن فقدوا الغاية وضيعوا الهدف، وانتقدوا المنهج والدليل.
إن رحلة المعراج بيَّنت في وضوحٍ وجلاء، ويقين ومشاهدة.. أن لكل عملٍ صالحٍ في الدنيا جزاءً عظيماً في الآخرة- فضلاً عن الجزاء العاجل- لكنه يفوقه أثرًا وامتدادًا في عالم الخلود.
كذلك لكل انحرافٍ وجريمةٍ وذنبٍ وإفسادٍ في الأرض عقاب يشيب لهوله الولدان، فضلاً عن العقوبة العاجلة في الدنيا، وإن كان بلاؤه في الآخرة لا نهايةَ له، ولا مهربَ منه.. (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)) (الفجر).
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوابَ المجاهدين الذين يزرعون ويحصدون في لحظتهم، ورأى نعيم العاملين الصالحين رأي العين- كذلك رأى عقوبة آكلي الربا والمغتابين ومانعي الزكاة وخطباء الفتنة ومضيعي الأمانات.
إن قاعدة الثواب والعقاب هي قاعدة الحق والعدل في هذا الوجود.. به قامت السموات والأرض.. ولا تصلح الحياةُ الإنسانية إلا بها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)) (الزلزلة).. (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60)) (الرحمن)، (هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: من الآية 47).
والإيمان بالغيب- عن معرفةٍ ويقين، وعن فكر وعقل، وعن تفكرٍ في آيات القرآن الكريم، وعن ثقةٍ في قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم عن رواية الصدق لمَن شاهد هذا كله في رحلة فريدة؛ كي لا يكون لأحدٍ عذرٌ أو شك.. هذا الإيمان الصادق بالغيب هو ضمانٌ لاستقامة الحياة البشرية وسيرها في طريق الرشد.
فالذي تتسع مداركه وأحاسيسه فتشمل عالم الغيب وينتقل منه إلى عالم الشهادة، والذي تمتد نظرته إلى الأفق البعيد من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، يُدرك أنه لكي يفوز في النهاية لا بد له من عملٍ صالح يُقدمه الآن في هذه الحياة الدنيا، فهي مكان العمل والبذل والجهد (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية 90)، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية 26)، (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61)) (الصافات).
فواقع الأمر أن الإيمان بالغيب- عن صدقِ ويقين- يؤدي إلى رفعة الحياة الدنيا، بإحسان العمل والعطاء والبذل، ويحفظها من الفساد والإفساد، مع الاطمئنان الكامل لجزاء الآخرة حتى لو فات جزاء الدنيا بعضه أو كله.
أما الذين يحبون العاجلة ولا يوقنون بيوم الحساب، لا يحسنون العمل إلا للمنفعة العاجلة والمكاسب الفردية الأنانية، فإن تطلب الأمر جهدًا أكبر من الجزاء أو عطاءً بلا مقابل امتنعوا وقعدوا وتراجعوا.. (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة: من الآية 58)، وهم كذلك لا يمتنعون عن الإفساد إلا إذا خافوا العقاب العاجل، فإن أمنوا هذا العقاب أو استأخروه رتعوا في الحرام، وأدمنوا الإفساد لا يردعهم رادع، ولا يزجرهم زاجر.. فأي الفريقين خيرٌ لهذه الدنيا؟!.
المؤمنون هم المفلحون.. دنياهم وأخراهم فلاح، فضلاً عن راحة قلوبهم وسلامة صدورهم، وهم يطبعونها على الخير المطلق والعطاء السمح مهما تأخَّر الجزاء.
في معراج النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى سدرة المنتهى. إلى الحضرة الإلهية، وهو موقفٌ لم يشرف به بشرٌ ولا ملك قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، وفي هذا الموقف فُرضت الصلوات الخمس، وهي هدية الله تبارك وتعالى لكل المؤمنين؛ كي تكون قلوبهم دائمةَ الاتصال بربِّ العزة والجلال ليلاً ونهارًا، وفي هذا سعادةٌ لكل مؤمن وراحةٌ لكل قلب وشفاءٌ لكل صدر وهدايةٌ لكل نفس، وتم نقل هذا المشهد في تشهُّد الصلاة ليتذكر كل مسلم ومسلمة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له؛ حيث لم ينس في هذا المقام، وبعد إهداء الله له "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فيقول "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"؛ ليشملهم رب العزة بسلامه ورحمته وبركاته ولم يستأثر بها لنفسه.. صدق مَن سماه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: من الآية 128).
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج تكريمًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهدية عامة لكل المؤمنين، وتصحيحًا للحياة الإنسانية بين المادة والروح، والغيب والشهادة والحياة الدنيا والدار الآخرة.
وبعد المعراج تبقى الصلاة معراج كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية 26).
فهل نعيد حساباتنا وترتيب أوراقنا، واستعدادنا لمعراجٍ حقيقي ينهض بمستقبل البشر جميعًا؟.. (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)) (القصص).. فهل نكون منهم؟!.