التاريخ : الخميس 25 أغسطس 2011 . القسم : رسالة الأسبوع

جائزة رمضان


رسالة من: أ.د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبعد..

اقتضت حكمة الله العادلة أن يكون لكل مجتهد نصيب، وأن يكون لكل عملٍ صالحٍ جزاءٌ من جنس العمل، وأن يكون جزاء الصبر هو النصر والفرج "وإنَّ النصر لمع الصبر"، و"إن مع العسر يسرًا".

 

لقد صامت الأمة كلها هذا الشهر الكريم، وكان لرمضان هذا العام طعم جديد، مبهجٌ مفرح، وهو يأتي بعد أن نعمت مصر وتونس، وأخيرًا ليبيا، بنسيم الحرية، وربيع الكرامة، فامتلأت المساجد بالركَّع السجود، وحفلت الليالي بالمعتكفين المخبتين التالين لكتاب الله، بلا خوفٍ من مراقبة أو متابعة ومطاردة واعتقالات ومحاربة، بلغت فيما مضى حدَّ المنع وغلق المساجد والتضييق على الأئمة وحرمان الأمة من علمهم، خاصةً أصحاب المواقف الجريئة الصادعة بالحق في وجه الباطل في كل هذه البلدان (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الطور: ).

 

ها هي الشعوب النقية الطاهرة تعود إلى ربها بشوقٍ وحب، بعدما حطَّمت أغلالها، وكسرت قيود الظالمين، بل وضعت كبار المستبدين في غيابات السجون؛ ليلقوا جزاء الحق والعدل من جرَّاء ما ارتكبوه من جرائم وخيانات في حق شعوبهم وبلادهم.

 

وها هي تُعلن هويَّتها وأصالتها.. شعوبٌ رفعها الإسلام، وأعزَّها ووحَّدها، وصبغها بأغلى صبغة وأعلاها وأمجدها (صِبْغَةَ اللَّهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة: 138).

 

جاء رمضان هذا العام ليُذَكِّر الأمة بهويَّتها ووحدتها، واجتمع في عبادة الصوم- كما اجتمع في موائد الإفطار- كل طوائف الأمة، مهما اختلفت الآراء، وتنوعت المشارب.. لكن الكل طائعٌ لله، داخلٌ في معيته وعبوديته، متآلفٌ مع جيرانه ومشاركيه في الوطن والمستقبل والمصير.

 

وتأتي العشر الأواخر، والكل يجتهد في العبادة لتحسين الختام، وليظفر بليلةٍ هي خيرٌ من العمر كله، ليلة القدر (ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ* لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 2، 3).

 

وها نحن نجتمع اليوم لندعو الله تعالى لأنفسنا وأهلينا وأحبابنا، وأوطاننا وشعوبنا كلها، بل وللإنسانية جمعاء، أن يرحم الله خلقه وعبيده، وأن يهديهم سبل الرشاد، وأن يعيننا على إصلاح ما أفسده المفسدون، ودمَّره الطغاة المستبدون.

 

ويأتي العيد بعد ذلك، يوم الجائزة، يوم يُوفِّي الله تعالى أجر العابدين المجتهدين المخلصين، المجاهدين في سبيل الله، والعاملين لرفعة الوطن، والمبتكرين لإدخال السرور على بيوت المواطنين، ومع الفطر يزول الألم، ويذهب العطش، وتبتهج الحياة.. إنه يوم الجائزة، يوم العيد، يوم الفرحة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)، لا يشعر بهذه الفرحة إلا من أخلصوا لله العبادة، وأحسنوا التوجه لخالقهم بالعمل والجهد، وتحملوا المشاق والمصاعب صابرين محتسبين "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"، و"في الجنة باب يُقال له الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه غيرهم".

 

آن لنا أن نقول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".

 

وسنقول في بلادنا بعد أن تحررت وتطهرت: ذهب الظلم والقهر والذل والاستعباد، وارتوينا من سلسبيل العزة والحرية، وسنأخذ أجرنا وأجر شهدائنا بدمائهم الزكية.. حياة حرة أبية، وكرامة عزيزة، ومكانة رفيعة.

 

أما الشهداء الأبرار، هؤلاء المختارون من الله تعالى، فهم الآن في أعلى عليين (أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: من الآية 169)، (فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (القمر: 54، 55)، نسأل الله تعالى أن يلحقنا بهم، وأن يجمعنا معهم بعد أن نكمل عملهم، ونحصد ثمار جهدهم، صلاحًا وإصلاحًا في هذه الدنيا، ونعيمًا مقيمًا في الآخرة.

 

ولا ننسى ونحن في فرحة العيد.. فرحة الريِّ بعد الظمأ، والحرية بعد القيد.. شعوبًا ما زالت تناضل لتنال حريتها، وتحطِّم قيودها، وتسترد كرامتها؛ في سوريا المناضلة، واليمن المجاهد، وقد اقتربت بشائر نصرها، وفلسطين الحبيبة، محور جهاد الأمة، وأصلها الذي سيشرق منه نور المسجد الأقصى عائدًا لأحضان أمته بعد طول انتظار (إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * ونَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج: 6، 7).. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ*  وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:4–6).

 

ولا ننسى، ونحن في فرحة العيد وبهجته، إخواننا من الجوعى والعطشى في الصومال وغيرها، وندرك أن إغاثتهم أمانة في أعناقنا، لا تكتمل فرحة العيد حتى يشبع جائعهم، ويرتوي عطشاهم، ويأوي شريدهم (إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).. "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

 

كل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منَّا ومنكم، فاليوم يوم حمدٍ وشكر وعرفانٍ وثناء، وتسبيح وتكبير (ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: من الآية 185)، وهو يوم العهد على العمل والثبات والجهاد لتحقيق المزيد (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: من الآية 7).

 

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

والله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد.