التاريخ : الخميس 20 أكتوبر 2011 . القسم : رسالة الأسبوع

تحرير الأسرى ووحدة الشعب الفلسطيني


رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد..

تُعَد صفقة تبادل الأسرى المُسمَّاة (وفاء الأحرار) بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال، من المحطات المهمَّة في تاريخ القضية الفلسطينية؛ فقد جاءت بعد مخاضٍ عسيرٍ وجولاتٍ طويلةٍ من التفاوض المُضْني، ولكنها في النهاية تمخَّضت عن نجاح المفاوِض الفلسطيني وحصوله على مطالبه التي قدَّمها في أولى جولات التفاوض منذ ما يقرب خمس سنوات. وهذا يعكس صبر وجلد وطول نفَس هذا المفاوِض وتمسُّكه بشروطه وثوابته حتى النهاية، رغم الحصار والتدمير والتجويع وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على غزة.

 

لقد أعادت هذه الصفقة قضية الأسرى إلى الواجهة من جديد، وأعادت تفعيل القضية الفلسطينية بما يتناسب مع حجمها وأهميتها في الحس والوجدان العربي والإسلامي، بل والإنسانية جمعاء، كما أنها سُطِّرت في التاريخ كأهم الأحداث التي أحدثت تغييرًا جذريًّا في موازين القوة، وأثبتت أن الحقوق تُنتزع ولا تُستجدَى. ولقد رأينا قول الله عز وجل يتحقَّق على أرض الواقع: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).

 

لقد أكدت هذه الصفقة نجاح "خيار المقاومة" وفاعليته؛ فلولا الإصرار على نهج المقاومة وأسْر الجندي لما كان في يد المقاومة أوراق ضغطٍ تتفاوض عليها، ولما أمكن النجاح في إطلاق الأسرى وبهذا العدد الكبير الذي يتجاوز ألف أسير مقابل أسير واحد، وكذلك الإفراج عن الأسيرات من النساء والفتيات والأطفال.

 

كما أثبتت هذه الصفقة أن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة والمقاومة؛ فهذه اللغة هي القادرة بإذن الله على تحرير الشعب الفلسطيني الرازح تحت أسْر الصهاينة.

 

لقد كانت معاملة الجندي الصهيوني الأسير طَوال فترة الأسْر مثالاً للخُلق الإسلامي الراقي والقيم الإسلامية الرفيعة؛ فلم يُلحَق به أذى، ولا إهانة بشهادته هو، مقابل المعاملة الإجرامية التي لاقاها الأسرى الفلسطينيون في سجون إسرائيل من ضربٍ وإذلالٍ، وتجويعٍ وتعذيبٍ. وهذا ليس بغريبٍ على "كيان المذابح" الذي اشتُهر بها على مدار القرن؛ بدءًا من دير ياسين، وقبية، وكفر قاسم، وصابرا وشاتيلا، والحرم الإبراهيمي، ومجازر المسجد الأقصى... وغيرها الكثير.

 

جاءت هذه الصفقة لتفضح وتكشف حجم التواطؤ الذي كان يمارسه النظام البائد في مصر؛ حيث ساهم في إفشال الصفقة قبل أكثر من عام؛ حتى لا تُعَدّ نصرًا للمقاومة. وقد ظهر جليًّا تغيُّر الدور المصري بعد ثورة يناير والذي كان له بالغ الأثر في إتمام الصفقة متزامنةً مع "ربيع الثورات العربية"؛ هذه الثورات التي أعادت تشكيل خارطة المنطقة؛ ما جعل كيان الاحتلال يُعيد حساباتها من جديد ويرضخ لمطالب المفاوضين.

 

* لقد تجلَّت وحدة الشعب الفلسطيني خلال الصفقة في نظرة المفاوضين بالإصرار على أن يكون الأسرى من كل أنحاء فلسطين لا من غزة فقط. وبذلك شمل الإفراج كل فلسطين؛ من بحرها إلى نهرها؛ من الضفة الغربية، والقدس، وأراضي 1948 المحتلة، والجولان والشتات، ومن جميع الفصائل والجبهات دون تمييز. وبذلك جاءت الصفقة تعبيرًا عن وحدة الوطن ووحدة الشعب الفلسطيني، وعن وحدة الهدف والنهج وشمولية القضية للعقيدة الوطنية والعروبة والجغرافيا والتاريخ.

 

* إن صفقة "وفاء الأحرار" يجب أن تكون محطةً لكل القيادات الفلسطينية للمراجعة والعمل على إعادة اللحمة إلى الصف الفلسطيني، وإعلاء شأن الأوَّليات الوطنية الفلسطينية وتعظيمها قولاً وعملاً، وأخذ الدروس والعِبَر، بل يجب أن تكون محطةً للأنظمة العربية لمراجعة سياساتها وتوجُّهاتها، والعودة إلى الخيارات الأخرى التي تمثل أمضى الأسلحة وأقواها، وعلى رأسها "المقاومة" بكل أبعادها وأشكالها.

 

* إن الإخوان المسلمين يتوجَّهون بالشكر إلى كل من ساهم في إنجاح تلك الصفقة، وخاصةً المخابرات المصرية الوطنية، ويأملون أن تتواصل الجهود لتحقيق المصالحة الفلسطينية بين مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، كما يتوجَّهون بالتهاني الحارة إلى الشعب الفلسطيني البطل، وإلى الأسرى البواسل في سجون الصهاينة، وإلى المفاوضين الكرام؛ على نجاح هذه الصفقة المشرفة التي نقول وبكل الثقة، وفي الوقت نفسه بكل التواضع، إنها ستدرَّس بإذن الله في الأكاديميات كأرقى وأقوى المفاوضات، وأهم من كل ذلك كيف يهزم الصدق والإخلاص والإصرار بقدرة الإرادة الإلهية والعون الرباني كل عتاد الغاصبين ووسائل التنصُّت والتجسُّس عالية التقنية، فيتحقق قول الله عز وجل مالك القوى والقُدَر ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: من الآية 9)، داعين الله أن يفك قيد أسرانا جميعًا ومسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم في القريب العاجل.. وليس ذلك على الله بعزيز.

 

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

والله أكبر ولله الحمد