التاريخ : الخميس 17 نوفمبر 2011 . القسم : رسالة الأسبوع
وماذا بعد الحج؟!
رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
فلاح الأمة في الاستمرار على الطاعات:
فمن علامات الحج المبرور أن يستقيم المسلم بعد حَجِّه، فيلزمَ طاعة ربه، ويكونَ بعد الحج أحسن حالاً مما قبله؛ فإن ذلك من علامات قبول الطاعة. قال بعض السلف: "علامة برّ الحج أن يزداد بعده خيرًا، ولا يعاود المعاصيَ بعد رجوعه"، وقال الحسن البصري: "الحج المبرور أن يرجع زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة".
يقول الإمام البنا: "ما أجلَّ عظَمةَ الربوبية!، وما أعظمَ فضلَ الألوهية!، وما أجملَ أن يتفضَّل الله على عباده فيدعوَهم إلى بيته العتيق؛ ليغفرَ ذنوبهم، ويطهرَ قلوبهم، ويضاعفَ أجورهم، ويجدِّدَ أرواحهم، ويمنحَهم من فيض فضله ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر!".
وهكذا يعود الحاج كيوم ولدته أمه، ليبدأ صفحةً جديدةً في حياته من النقاء والطهارة والصفاء، يحمل في نفسه طاقةً هائلةً، ليخطوَ خطوات النجاح في حياته مع ربه ونفسه والناس. وهذا هو العَوْد الحميد باستقامةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ.
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل؟" قال: "إيمانٌ بالله وبرسوله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "ثم حَجٌّ مبرورٌ" (رواه البخاري ومسلم). والحج المبرور هو الذي لا تعقبه معصيةٌ لله.
حاجة الأمة إلى التلبية الدائمة
التلبية هي هتاف الروح؛ لا تُقال بالأقوال، بل تُترجَم إلى أفعالٍ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك.. لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك.. إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْك، لاَ شَرِيكَ لَك لَبَّيْك".. نداءٌ تُطلقه القلوب المستجيبة لنداء الله ليستمرَّ معها طَوال العام؛ تعلن عن ولائها وصدق توجُّهها، متحدِّية المتاعب والمشاقَّ، حبًّا لله وشوقًا إليه، لتبدأ طريق الإصلاح: لبيك اللهم لا للفساد.. لبيك اللهم لا للفجور.. لبيك اللهم لا للإلحاد.. لبيك اللهم لا للإباحية.. لبيك اللهم لا للظلم وانتهاك حقوق الإنسان.. لبيك اللهم لا للتخريب والإرهاب؛ فالحمد والنعمة والملك لله وحده، لا لأية قوة مهما بلغت على الأرض "لا شريك لك لبيك".
إنها صيحة العزة التي هي اليوم مطلب الثورات العربية: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).. إنها صرخة المجد للأوطان وهي في طريق نهضتها: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 139)، إنها كلمة الأمل للعاملين المجتهدين: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: من الآية 47).
يقول الإمام البنا عن أثر هذه النداء في الحياة السعيدة: "ما أجملَ أن يتفتح قلب المؤمن على هذا النداء العلوي، ويتلقاه كما تتلقى الزهرة الناضرة قطرات الندى!؛ فيحيا به ويسعدَ، هاتفًا من أعماق قلبه: لبيك اللهم لبيك".
فإن حققت الأمة معنى التلبية، تكفَّل الله بنصرها، ودمَّر عروش الباطل، كما نراها تتهاوى اليوم بأمر من الله، حينما وعت شعوب الأمة التلبية، وأقسمت على التصدِّي للفساد والظلم، فقدَّمت التضحيات من الشهداء والجراحات في مصر وتونس وليبيا. وإن غدًا لناظره قريب في اليمن وسوريا- بإذن الله- التي تتحدَّى نظمُها المستبدةُ إجماعَ الأمة بكل مكوناتها على إزالتها.
وحدة الأمة هي أمل البشرية
يقول تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...ْ﴾ (الحج).
فالحج ذلك المؤتمر الإسلامي الكبير، وتلك المظاهرة الإيمانية الرائعة التي تشترك فيها صنوفٌ متعدِّدةٌ من الأجناس والفئات والطبقات والقوميات على موعدٍ واحدٍ، وفي أرضٍ واحدةٍ، يردِّدون هتافًا واحدًا، ويمارسون عملاً واحدًا، ويتِّجهون إلى غايةٍ واحدةٍ؛ هي الإعلان عن العبودية والولاء لله وحده؛ تلكم الرسالة الممتدة في كل عام: أنتم قوةٌ باتحادكم.. أنتم قوةٌ بتآلفكم؛ فعلامَ تتفرَّقون؟! وقد آن لكم اليوم تحقيق فريضتكم الغالية: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ (آل عمران).
فاحذروا كيد أعداء ثوراتكم الذين يُجيدون توجيه استعمال سلاح التشرذم والاختلاف والفُرْقة بينكم، والذين يتقنون نشر الضلالات التي توهن أمتنا، من تغييرٍ للهوية، وتلاعبٍ في الثقافة، وعبثٍ بإرادة الأمة، ونشرٍ للانحلال والإباحية، واحتلالٍ للأوطان، ونهبٍ للثروات والكنوز، وتخريبٍ وتدميرٍ للحياة والأمان؛ لأنكم إن استجبتم لهم ولم تتصدَّوا لهذه التحديات، أوشك الله أن يعاقبكم بالتفتيت كما عاقب غيركم؛ لعلكم ترجعون إلى التآزر والصف الواحد. يقول تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 65). في صحيح البخاري عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك".
إن وحدة الأمة اليوم هي الأمل، بعد أن رأينا كيف يُسقط الحج الحدود بين البلدان، بل بين القارَّات؛ تلك الحدود التي صنعتها الأطماع البشرية، والعنصرية والأنانيات؛ فالحج لا يُشعرنا بوحدة العالم الإسلامي فحسب، بل بوحدة الأرض، ووحدة البشر، ووحدة الإنسانية؛ ففي حجة الوداع كان الإعلان الحقيقي في نشر الحريات والمساواة والعدالة؛ أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ. ألا لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ، إلا بالتقوى" (رواه البيهقي)، وكان الإعلان الصادق في استعادة المرأةِ كرامتَها وحقوقَها ومكانتَها، وكان الإعلان العام في حقوق الإنسان وعزته: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" (رواه مسلم)؛ فمتى يُفيق العالم الحائر إلى قارورة دواء الإنقاذ في الإسلام كنظامٍ لحياته، وحلٍّ لمشكلاته؟!
يقول الشهيد سيد قطب عن هذا المعنى في الحج: "وهو مؤتمرٌ للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرةً في كل عام".
فهل تستثمر الأمة منافع الحج في وحدةٍ شاملةٍ بحشد كل قواها، وحفز كل استعدادها، وتجميع كل طاقاتها، للبناء والنهضة والإنتاج؛ لتتهيأ بذلك لحمل الأمانة والقيام بالرسالة؟!؛ فالحج بجانب كونه عبادةً وتقرُّبًا إلى الله سبحانه، فإن فيه منافعَ اجتماعيةً، وفوائدَ ثقافيةً، واقتصاديةً، وسياسيةً، وتربويةً، تساهم في بناء الأوطان، وتزيد وعي الأمة وتوجِّهها، وتساهم في حل مشكلاتها، وتنشيط مسيرتها.
عهدٌ مع الله وثيق
لقد لخَّص الإمام الشهيد واجبات الأمة بعد الحج في كلمته أمام الوفود في موسم الحج قائلاً: "أيها الإخوان، إننا في هذا البلد الحرام، وأمام بيت الله الحرام، وزمزم، ومقام إبراهيم؛ نعاهد الله عهدًا وثيقًا على أننا سنحمل عبء الجهاد والتضحية في سبيل اعتناق مبادئ الإسلام السامية، وتعاليمه الحكيمة، وسنحارب بعون الله جميع البدع والخرافات الدخيلة على ديننا السليم المبنيِّ على التوحيد الصحيح؛ تلكم الفكرة السليمة التي من ذاق طعمها ذاق حلاوة الإيمان، وكان عند الله من المقبولين..."، ثم ارتفع صوته قائلاً بعبارة مؤثرةٍ بليغةٍ: "اعلموا أن سعادة المسلمين لا تتحقَّق ولا تكون إلا بجعلهم القرآنَ الكريمَ دستورَهم وقانونَهم.. احملوها عني كلمةً: إن الله لا ينصر القوم الفاسقين الذين هجروا دينهم وسلكوا طريق الشيطان الرجيم. ويوم أن نعود إلى حظيرة القرآن والسنة المطهرة يوم أن نرى نصر الله ماثلاً أمام أعيننا؛ لأنه وعدٌ من الله. ووعد الله صادقٌ لا يتخلَّف.. اقرءوا قول الله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47)".
وأذكِّركم أيها الإخوان وأنتم تحملون هذه الدعوة، وتسعَون في نشرها، وتبذلون في سبيلها الوقت والمال والجهد، خاصةً في هذه الأيام؛ بما أعلنه الإمام البنا في البقاع الطاهرة من وسائلَ تضمن نجاح دعوتكم؛ يقول الإمام الشهيد حسن البنا في ذلك: "ولكن الذي أقصده أن دعوة الإخوان المسلمين- وهي دعوةٌ خالصةٌ لوجه الله من أول يوم- مؤسَّسةٌ على تقواه، مستندةٌ إلى عظَمته سبحانه.. هذه الدعوة أعتقد أنه لا بد لنجاحها من أمرين أساسيين:
أولهما- طهارة القائمين بها، ونزاهة نفوسهم حتى تصلح لتلقِّي المعونة والنصر من الحق تبارك وتعالى.
وثانيهما- صلة هذه القلوب بالداعي الأول صلى الله عليه وسلم، صلةً روحيةً قويةً تؤدي إلى حسن الاتباع والاستمساك بالسنة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
اللهم قد بلَّغت، اللهم فاشهد.. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والله أكبر ولله الحمد.