التاريخ : الخميس 19 يوليو 2012 . القسم : رسالة الأسبوع
رمضان وبناء الأمة
رسالة من: أ.د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديهم، وسلك طريقهم إلى يوم الدين.. أما بعد..
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183).
أيها المسلمون..
إن شهر رمضان المعظم، شهر بناء النفس، وتقوية الروح، وتزكية الأخلاق، وزيادة القرب من الله بما يقوم به من صلاة وصيام وتلاوة وقيام ومسارعة إلى الخيرات، وإحسان وصدقات، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَات فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا" (الطبراني).
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوَّه نادما يوم الحصاد
شهر رمضان موسم الطاعات:
إن شهر رمضان من أعظم مواسم الخير وأجلها قدرًا؛ حيث يهل علينا رمضان بهلال الخير والرشد والبركة، فتغتبط به القلوبُ، وتفرح به النفوسُ، وقد يسر الله الطاعة على المسلمين، كما كرّه إلينا العصيان، وذلك ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح أبواب الجنان وإغلاق أبوب النيران وتصفيد الشياطين، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" (فتح الباري 4 /112 / 1899).
وشهر رمضان شهر التحرر من الشهوات، والسيطرة على الأهواء، ومغالبة النفس، ومن قدر على قهر نفسه وهواه، فهو أقدر على الغلبة على ما سواه، ومن صرعته شهوة كان صرع الأعداء له أيسر.
وعجيب أمر المسلمين حين يغفلون حكمة الصوم، وسر فرضيته، فقد جعله الله للقلب والروح، فجعلوه للبطن والمعدة، جعله الله للحلم والصبر، فجعلوه للغضب والطيش، جعله للسكينة والوقار، فجعلوه شهر السباب والشجار، جعله الله ليغيروا فيه من صفات أنفسهم، فما غيروا إلا مواعيد أكلهم، جعله الله تهذيبًا للغني الطاعم، ومواساة للبائس المحروم، فجعلوه لفنون الأطعمة والأشربة، تزداد فيه تخمة الغني، بقدر ما تزداد فيه حسرة الفقير، جعله الله شهرًا للقيام والقرآن والذكر والاستغفار بالأسحار، فاستبدله المسلمون بالأفلام والمسرحيات والمسابقات، وكأن لسان حالهم، يردد مع دعاة الشهوات، ومثيري الغرائز لدى الإنسان هذا النشيد:
إنما الدنيا طعام وشراب ومنام
فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
بينما يكون نشيد المؤمنين في جميع أوقاتهم لا في شهر رمضان فقط.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
رمضان وبناء الأمة..
يطلع علينا هلال شهر رمضان المبارك في هذا العام ويشرق معه نسيم الحرية على الأمة، وتسعى كل دولة لاستكمال سيادتها على أرضها، والتحرر من كل قيد أجنبي، وشهر رمضان يمدنا بكل مقومات البناء والتغيير والنهضة ويتجلى ذلك في الآتي:
أولاً: في شهر رمضان نزل القرآن وهو يمثل المنهج المتكامل الذي يجب على الأمة أن تستند إليه في صياغة دستورها، ومن هنا كان شعار الجماعة "القرآن دستورنا".
ثانيًا: أن التغيير لا يتم إلا على صرح أخلاقي قوى متين، وتغيير النفوس الضعيفة اليائسة المنهزمة من داخلها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
وشهر رمضان يزودنا بأسمى الأخلاق وأرفع القيم وذلك حين يدعونا إلى المحافظة على السمت الحسن فلا رفث ولا صخب، كما يحثنا على أن نترفع بأخلاقنا مع من يسيء إلينا وينال منا بالسب والشتم وغيرها من الاعتداءات: عن أَبَى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".
وفي شهر القرآن يجب علينا التحلي بصفات القرآن العظيم، والتأدب بآدابه، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة وقد وصفه الله عز وجل بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4). وقد كان خلقه القرآن الكريم، وقد سئلت السيدة عائِشَة عن خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ".
وإنما تحيا الأمم بأخلاقها:
إنما الأمَمُ الأخلاقُ ما بقِيَتْ *** فإن هُم ذهبَتْ أخلاقهُم ذَهَبُوا
والإصلاح وتغيير النفوس إنما يتحقق بالأخلاق:
صلاح أمرِكَ للأخلاقِ مرجعهُ *** فقوّم النفس بالأخلاق تستَقِمِ
ونهيب بكل مسلم أمسك عن الطعام والشراب أن يمسك عن الكذب والبهتان ورمى الآخرين بالتهم، وأن يجعل من شهر رمضان منطلقا للطهارة من تلك الآثام وإلا أحبط صيامه وأبطله، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي مقلتي غض وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ وإن قلت إني صمت يوما ما فما صمت
ثالثًا: الصوم يمنح المسلم حسن المراقبة لله؛ حيث إنه يمكنه أن يأكل ويشرب دون أن يراه أحد، والنهوض بالأمة والارتقاء بها يحتاج إلى من يعمل ويتقن العمل خشية من الله، وطلبًا للأجر من الله، ولا يبالي بمراقبة البشر، بل هو يعمل في غيبة الرقابة البشرية أكثر، ويحسن ويتقن تطوعًا وعبادة لله عز وجل، ورغبته في الجزاء من الله أكثر من الجزاء من البشر، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ".
رابعًا: علينا أن نجعل من شهر رمضان نقطة الانطلاق لقافلة التغيير، وساعة الانطلاق للعمل، وألا نجعل من الصيام مسوغًا للكسل، أو مبررًا للقعود، فالمسلم في الصيام يصوم بالنهار ويسهر بالليل، وفي رمضان كانت المعارك الفاصلة في حياة الأمة.. بدر وفتح مكة وحطين، ونصر العاشر من رمضان، والواجب علينا في لحظة التحدي والصراع الذي تعيشه الأمة في هذه المرحلة أن تواصل العمل في رمضان لتسترد مكانتها وتبني مجدها وتتمتع بعزتها.. وهي بذلك تنال أجر المجاهدين في سبيل الله.
خامسًا: رمضان يوحد بين الأمة المسلمة في مشاعرها؛ حيث يصومون مع رؤية الهلال، ويفطرون لرؤيته، ويجتمعون على الإمساك مع مطلع الفجر، والإفطار مع غروب الشمس، كل ذلك يبني في الأمة حب الوحدة والاجتماع، ويحذر من الفرقة والاختلاف، وذلك هو السبيل الوحيد لنصرة الأمة أن تعتصم بحبل الله وأن تتحد ولا تتفرق: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)( آل عمران: 103)، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)( الأنفال: 46). على العالم أن ينصف مسلمي بورما..
سادسًا: ومن منطلق الوحدة والاتحاد بين المسلمين فإنه يجب علينا أن ننصر المظلوم وأن نكفي المحتاج وأن نرشد الضال، فالتكافل والتضامن والتناصر بين المسلمين واجب، ومن ثَمَّ فإننا نناشد الهيئات والمنظمات الدولية لوضع حد لأعمال المجازر والمذابح والحرق التي تقع في بورما "الأراكان"؛ حيث يتعرضون للظلم والتعذيب والقتل والتهجير القسري، ويخربون بيوتهم ومساجدهم وتتعرض نساؤهم للاغتصاب، وقد قتل منهم أكثر من ألف مسلم، ومن بشاعة جرمهم أنهم قتلوا منهم البعض حرقًا، كما أنهم شردوا أكثر من 90 ألفًا، وهذه جرائم إنسانية بشعة يجب أن يقف في وجهها ليس كل مسلمي العالم فقط، بل كل أحرار العالم.
ويجب علينا أن نمدهم بكل عون مادي، يخفف من آلامهم، ونناصرهم في المحافل الدولية، ونرفع أصواتنا في كل مكان من أجل نصرتهم واسترداد حقهم.
التكافل والتضامن مع فلسطين وسوريا..
وتبقى فلسطين في بؤرة الاهتمام من كل مسلم، ولا تغيب عن بصرهم، وكذلك سوريا المنكوبة بمن يسلط عليهم أسلحة الهدم والدمار والقتل بقلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، ومصيبة المصائب أن الذي يفعل هذا ليس عدوًا من خارج البلاد كما يحدث في بورما وفلسطين، ولكنه رئيس للبلاد ينتسب إلى الإسلام ويتحمل مسئولية حماية شعبه من أعدائه فإذا به يستخدم جيش بلاده الذي ينفق على تسليحه من أموال شعبه لقتل أبناء وطنه من أطفال ونساء وشيوخ، فحسابه أشد ونهايته سوداء بإذن الله تعالى، ودعاء المسلمين عليه ليلاً ونهارًا وهم موقنون بالإجابة جدير بالتحقق، فقد أقسم رب العزة لينصرنها ولو بعد حين، بينما نتعجب من أن العالم في صمت مخز تعقد الاجتماعات منذ عام ونصف وتنفض بلا أي نتيجة على الأرض، وفي كل مرة يمنحون النظام فرصة أخرى لقتل شعبه بينما تهتز أركانه حين يقتل صهيوني، أو يؤسر، بل يتحركون لو وقع ذلك بعالم الحيوان، وفي هذا الشهر الكريم يجب علينا أن نقدم لهم كل عون مادي ودعم سياسي.
سابعًا: سهم الدعاء، ومع نصرة إخواننا المسلمين المظلومين في كل مكان بالعون المادي والدعم السياسي، فإن الواجب على كل مسلم أن يصوب سهم الدعاء الذي لا يخطئ إلى صدور من يظلم إخواننا وللصائم دعوة لا ترد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً لَا تُرَدُّ". فليكن لهؤلاء النصيب الأوفى من دعواتنا، عند إفطارنا وفي تهجدنا بجوف الليل وعند السحر، والله ناصرها والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولا ننسى في هذه الأيام والليالي المباركات أن ندعو لوطننا العزيز مصر، أن ينجيه الله تعالى من الفتن التي يمر بها، وأن يخلصه من الطغاة والفاسدين وأنصار النظام البائد المخلوع، وأن يؤيد رئيسنا لقيادة سفينة الوطن إلى بر الأمان، وتحقيق الاستقرار والنهضة والبناء، فخير حكامنا كما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم الذين ندعوا لهم ويدعون لنا".
ألا فليعتبر أولو الألباب وليستجب أولو الأبصار، وليدخلوا مدرسة الصوم الربانية، ليتخرجوا منها رجالاً، قد نالوا الدرجات العلى، واستكملوا جوانب النفس، وتخلصوا من كل نقص، وجددوا إيمانهم بالله، وزادت صلتهم بربهم، وتواصلوا واتحدوا فيما بينهم، وكانوا لبنات صالحة في نهضة الأمة وبنائها.
والله أكبر ولله الحمد