التاريخ : الخميس 26 يوليو 2012 . القسم : رسالة الأسبوع
رمضان مشروع التقوى (رسالة الأسبوع)
رسالة من: أ. د/ محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
لا شك أن أي مشروع يريد فرد أو مجموعة أو فرقة أو مؤسسة القيام به لتحقيق هدف ما- اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو عسكريًّا أو تجاريًّا- يحتاج إلى عدة أمور؛ أهمها: نية وعزيمة وقصد، لا بد أن يكون قد بلغ غايته في الهمة والاقتناع ثم يبدأ التنفيذ.
ونستطيع هنا أن نعتبر شهر رمضان المبارك مشروعًا للتقوى، فرضه الله عز وجل على كل أتباع الرسالات السماوية لتحقيق هذه الغاية في قادة الجنس البشري، ومشروعنا الرمضاني القرآني يتكرر كل عام ويدخله كل المسلمين صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً في كل أنحاء الأرض للتدريب على تحصيل (التقوى) وتحقيقها في القلوب والمشاعر، في الأرواح والأجساد، في الأخلاق والسلوك...
تحقيق (التقوى) هو الغرض الأساسي الذي من أجله فرض الصوم على جميع الأمم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) (البقرة: 182-183).
وكأي مشروع جاد وخطير لا بد له من تخطيط وإعداد يسبق تنفيذه بزمن معقول؛ ولهذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يبدأ في الاستعداد والتهيئة له قبل بدئه؛ حيث يجتهد في صيام شعبان، فيصومه كله إلا قليلاً، وجاء في الأثر: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
وكي يتم هذا المشروع على أفضل مستوى لا بد له من تجديد النية وتحقيقها وتحفيزها لنيل الجائزة والترقي في مدارج الكمال "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" .."كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".
ثم لا بد بعد النية الصادقة من عزيمة قوية وتصميم على تنفيذ المشروع في الزمن المحدد والذي يمتد إلى ثلاثين يومًا متصلة حتى يتعود الجسم على الصبر والمصابرة وتتعود النفس على السمو والمجاهدة؛ فاتصال هذه الأيام وتلاحقها يؤثر في النفس تأثيرًا بالغًا لا يصل الإنسان إليه بصوم يوم أو أيام متباعدة، وقد قال علماء السلوك: إن الهمة أو الصفة التي تريد تثبيتها والمداومة عليها تحتاج بين 30: 40 يومًا لتحقيق التمييز فيها.
وعكس مشاريع الدنيا التي قد تبدأ بهمة ونشاط ثم تضعف وتفتر بامتداد الأيام، فإن مشروعنا الكبير يزداد تألقًا وارتفاعًا وتأثيرًا باقترابه من نهايته، فيرتفع الأجر ويتضاعف في (العشر الأواخر)؛ حتى يبلغ قمته في (جائزة مخبأة) تسمى (ليلة القدر)؛ التي تعادل في قدرها وفضلها ألف شهر (أي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة) وهي التي تدفع الكثير من الصائمين- وعلى رأسهم حبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم- إلى ترقبها و(الاعتكاف) لها، ليلًا ونهارًا في المسجد؛ كي لا تفوتهم لحظة واحدة من هذه الليلة المباركة.. (إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدْرِ * ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِى حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ) (القدر: 1-5).
أعمال هذا المشروع الكبير هي: (الصوم والصلاة والذكر والاستغفار والتسبيح والصدقة والقيام والتهجد والدعاء...)، وكلها أعمال يتضاعف أجرها بقيمة زمانها.. خصلة الخير تعادل فريضة، والفريضة فيه تعادل سبعين فريضة، وتتاح أكبر فرصة لتحقيق القرب من الله والاستمتاع بمعيته سبحانه (وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ) (البقرة: 186).. "للصائم عند فطره دعوة لا ترد"... "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم".
في هذا الشهر الكريم تعمر المساجد بالقائمين الراكعين الساجدين، يُتلى عليهم ويُتدارس بينهم هذا القرآن العظيم.. دستور هذه الأمة الخالد.. المنزل من السماء بالحق والعدل والميزان؛ الذي لا يحابي أحدًا، بل يساوي بين الناس جميعًا في الحقوق والواجبات.. (يَهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ)، ينظم العلاقة بين المرء وربه، وبين المرء ونفسه وبين المرء وجميع الخلائق والكائنات، واضعه ومنزله هو الله رب العالمين، الذي يعلم ما يصلح الإنسان ويهديه ويرقِّيه.. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير) (الملك: 14)، وحاملهُ إلينا وشارحهُ لنا هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الذي (مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلا وحْى يُوحَى) (النجم: 3-4) (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (ص :29) (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفَاءٌ) (فصلت: 44).
وهو كتاب كريم يرفع مستوى الأمة بأسرها، وهو الذي يبث (الروح) في نفوس أبناء الأمة المسلمة ويرتقي بها في معارج الكمال وينير لها الطريق الوضيء (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ ولا الإيمَانُ ولَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وإنَّكَ لَتَهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ ومَا فِى الأَرْضِ أَلا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى: 52-53).
وقد حدد الإمام البنا رحمه الله رحمةً واسعةً مهمتنا منذ نشأتنا: "أنتم روح يسري في جسد هذه الأمة ليحييها بالقرآن".
وككل مشروع كبير هناك معوقات وصعوبات تواجهه لا بد من العمل على تخطيها والتغلب عليها:
معوقات من داخل النفس: كضعف الهمة، وخَوَر العزيمة التي قد تقف بالإنسان في منتصف الطريق أو كضعف الإيمان ذاته؛ مما يجعله يخالف سرًّا أو يُفطر خفيةً فيرسب في الامتحان العظيم "من أفطر يومًا متعمدًا في نهار رمضان لم يغن عنه صوم الدهر وإن صامه".
وهناك معوقات من خارج الإنسان: كشياطين الإنس الذين يزينون المعاصي ويسرقون الأوقات الغالية واللحظات الثمينة.. هل يُعقل أن يعد لشهر رمضان سبعون مسلسلاً؟! من أين يأتي الصائم بوقت لمتابعة كل هذا؟! إنها خطة متعمَّدة لتسرق وقت الإنسان وتحرم الأمة كلها من ثمرة المشروع الكبير وهي (تحقيق التقوى).
إن الله تعالى رحمةً بعباده قد قيَّد وصفَّد شياطين الجن والتي تتسلل للإنسان غدرًا وخفيةً (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ)؛ فهل نستسلم لشياطين الإنس الذين هم في قوتنا ونستطيع أن نهزمهم بالعزيمة القوية والتصميم على بلوغ الغاية؟!
هذا وإن من أعظم القربات في هذا الشهر الكريم إدخال السرور على بيوت المسلمين ببذل المال والصدقات وسد حاجات المحتاجين وتفريج كرباتهم، ولعلنا في (مشروع المائة يوم) نستطيع أن نفعل الكثير، وأن نطرق أبواب الخير جاهدين لإصلاح البلاد وشئون العباد، ولا يقل هذا بحال من الأحوال عن عبادة الصوم والصلاة بل الاعتكاف؛ فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "لأن تمشي في حاجة أخيك، قضاها الله أم لم يقضها خيرٌ لك من أن تعتكف بمسجدي هذا شهرًا".
فقضاء حوائج المسلمين خيرٌ من اعتكاف بمسجد رسول الله الذي تعد الصلاة الواحدة فيه خيرًا من ألف صلاةٍ فيما عداه، بل إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، وهؤلاء هم الآمنون يوم يفزع الناس، كما بشر الحبيب الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم القربات كذلك نصرة المستضعفين في الأرض بكل الوسائل والجهاد في سبيل الله في ذروتها (ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ ولِيًّا واجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (النساء: 75).
فنسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المستضعفين في سوريا وأن يحقن دماءهم ويحفظ ديارهم وشبابهم وأعراضهم، وأن يهلك طاغيتهم وعصبته الباغية، وأن يرينا في هذا الشهر الكريم عجائب قدرته وعظيم انتقامه من الظالمين المفسدين، وأن ينصر إخواننا المضطهدين في بورما وفلسطين وكشمير وبنجلاديش وكل بقاع الأرض، فأكثروا من الدعاء لإخوانكم، فأولى الدعوات المستجابة دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب.
فقد كان شهر رمضان على مدار التاريخ شهر العزة والفخار والمجد والانتصار، وسنرى قريبًا بإذن الله تعالى ثمار (التقوى) وبركات (الاستقامة) وجائزة الإخلاص والصدق والجهاد في سبيل الله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم: 4-6).
والله أكبر ولله الحمد
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.