التاريخ : الأربعاء 08 يناير 2020 . القسم : رسالة الأسبوع
رسالتي إلى الإخوان..
من تراث المستشار محمد المأمون الهضيبي - المرشد العام الأسبق
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه... وبعد ...
فكل عام وأنتم بخير تقبل الله منا جميعا الصيام والقيام ووسائر العبادات، نسأل الله أن يجعلها خالصة صالحة.
وأن يعيد هذه الأيام على أمتنا وقد تحررت أوطانها وعلت كلمة الله فيها وعاد الناس إلى ربهم عودًا جميلا... لقد شهدت هذه الفترة صحوةً إيمانيةً عبرت عن حب هذه الأمة لدينها وإسلامها نرجو الله أن تدوم هذه الصحوة وأن تستمر هذه العودة فتشمل الأمة كلها شعوبًا وحكومات حتى تسترد عافيتها وتقترب من تحقيق غاياتها في ظلال النصر والتمكين، حرية لأبنائها وعافية لمقدساتها.
و لقد استقبلنا خلال هذه الفترة مصاباً جللاً، وافتقدنا علماً من أعلام الدعوة والتربية إنه أخونا وأستاذنا ومرشدنا الأستاذ / مصطفى مشهور ذلك الرجل الذي عاش للدعوة منذ شبابه الباكر.
داعياً مربياً مجاهداً مضحياً، تحمل في سبيل الدعوة ما تحمل فصبر وصابر ورابط لم يغير ولم يبدل ...فرحم الله مرشدنا رحمةً واسعةً وأجزل له العطاء وألحقه مع من سبقه من إخوانه المرشدين في مستقر رحمته (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء: من الآية69)
إن الدعوة قائمةٌ ماضيةٌ في طريقها وأنتم أيها الإخوان جميعاً جنودها، تحملون رايتها وتبلغونها للناس موقنين أنها دعوة التي الله بها وجودنا وكينونتنا، أما هي فموجودة ومستمرة بنا أو بغيرنا.
ولسنا وحدنا الذين نحملها، فكثير من الناس في تجمعات وروابط يقومون بأدوار في حملها، وقد تخيروا منها جوانب توافقت مع ظروفهم أما أنتم أيها الإخوة فقد اخترتم منهجية الدعوة الشاملة دون اجتزاء أو انتقاء، لقد اخترتم مفهوم الإسلام الشامل الذي ينتظم مظاهر الحياة كلها فهو دين ودولة، مصحف وسيف، وهو يعنى بالآخرة عنايته بالدنيا لا فصل فيه بين الدين والسياسة، كلٌ من عند الله، تلك عقيدتنا، عن القرآن أخذناها وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثناها.
ومع هذا فلكل عامل في حقل الإسلام جزاء عمله ما صدقت النوايا وصلح العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (الأنبياء:9) فسيروا على طريقكم الذي ارتضيتموه، وعلى سعته وشموله الذي أخذتموه، بلاغا إلى أمتكم ومعذرة إلى ربكم(وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: من الآية35) .
والإخوان في وجودهم وتحركهم يحكمهم قانون ولوائح تنظم سير العمل وطرائق الاختيار لمواقع المسئولية من خلال فقه الشورى وآدابها، والمسئولية عندهم ابتلاء واختبار، تكليف لا تشريف، لا يحرص أحدٌ منهم عليها.
وتأتي الشورى على رأس قواعد الاختيار للمسئول لا سيما من يتولى كبرى هذه المسئوليات، ولم تعش الجماعة يوما في الفراغ اللائحي، إنما تنطلق من نظام الإسلام الذي يأبى أن يتحرك ثلاثة فأكثر في أمر دون إمارةٍ تنظم الأمر وتحكم السير "إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم“.
وإنني أيها الإخوة عشت في صف هذه الدعوة المباركة التي ما خَرَجَت عن فقه الإسلام في سيرها وتعاملها مع أبنائها وغيرهم ندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن، قدوتنا في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج الراشدين من بعده " (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) .
ولا أرى أفضل من هذا المنهج، ولا أقوم من هذا السبيل، عليه بايع من سبقونا وعليه بايعنا جميعا، بايعنا الله أولاً، ثم بايعنا من تحمل هذه التبعة ومن ارتضاها منهاجاً للعمل ودليلاً للسير لإعلاء كلمة الله وتحقيق أهداف هذه الدعوة من إعداد الفرد إلى أستاذية العالم, وإنا لموقنون بتأييد الله ونصره، وما ذلك على الله بعزيز، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (صّ:8)
أيها الإخوان عصمني الله وإياكم من الزلل وسدد خطانا جميعا وألهمنا رشدنا وأعاننا على القيام بما تقتضيه الدعوة من أعباء، لقد حملتموني هذه المسئولية ولست وحدي الذي يحملها بل كل أخ في الصف يحمل من هذه المسئولية بحسب مكانه وموقعه وما آتاه الله من إمكانات العطاء، فأعينوا وسددوا، وابذلوا واصبروا وأشيروا بالرأى، وكونوا عند حسن الظن بكم ولتكن أعمالنا أكثر من أقوالنا، ولنسر على ما ارتضيناه من المنهج القائم على وحدة الفهم من خلال الأصول التي بايعنا عليها والمعتمدة على مرجعية الكتاب والسنة نحرص على وحدة الفهم هذه فنفهم الإسلام عقيدة وحركة، دينا ودنيا، وأسلوبنا كان وما يزال وسيظل إن شاء الله يقوم على الاعتدال والوسطية ومد يد التعاون على البر والخير، وليس من وسائلنا العنف أو التشدد أو الإفراط أو التفريط.
نعتمد في عملنا: المحافظة على علاقات طيبة مع غيرنا، فلا نناصب أحداً العداء، ومبدؤنا ألا نجرح ولا نغتاب، إنما نقدم النصح الخالص بأحسن القول وأجمل الأسلوب وهذا منا دين نعتقده، وندعو لمن يتهمنا بغير دليل أن يغفر الله له وأن يعينه على الوصول إلى الحقيقة، أن يسمع عنا منا لا من غيرنا، ونحن جماعة من المسلمين انتهجت الدعوة إلى الإسلام كله بشموله لكل مظاهر الحياة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )(البقرة: من الآية208).
وإن كنا جماعة من المسلمين فنحن من خلال المفهوم الإسلامى الصحيح جماعةٌ عالميةٌ منذ نشأتها وقد امتدت حتى غطت جميع القارات وكان للمنتمين إليها في كل الأقطار جهودٌ أحست بها شعوبهم، وفي بعضها شاركت الجماعة في أعباء الحياة السياسية وغيرها من النشاطات، وحققت نجاحات في التعاون مع الآخر دون احتواء أو إلغاء، ومن هنا فإن الجماعة تهتم بقضايا العالم الإسلامي كله وتخص باهتمام العالم العربي وقضيته المحورية فلسطين، وهي أم القضايا، نبذل في سبيلها كل ما هو مستطاع من سبل الدعم المادي والمعنوي ونعمل على أن تظل القضية حية لا تموت ولا تتوارى في عالم النسيان بل ينبغي أن تظل شاخصة للعيان حتى تتوارثها الأجيال فيقيض الله لها جيلاً يحقق النصر المنشود، يعيد إليها راية الإسلام، وتعلو فيها كلمة الله، وهو وعد نؤمن بأنه سيتحقق (..... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: من الآية4-5) ونحيى جهاد الشعب الفلسطينى ونشيد بالعمليات الجهادية وعمليات الاستشهاد، وتقبل الله الشهداء وبارك أعمالهم .
والعراق شعباً ووطناً أمانةٌ في أعناق أمتنا نذكر بالحفاظ عليه ونشد على الأيدي للوقوف في وجه مؤامرات استئصال شعبه وتمزيق أرضه، ولا نألوا جهداً في تذكير الأمة وشحذ هممها لرد الغارة الأمريكية الصليبية عنه.
كما لا نمل من تنبيه الأمة إلى ما يحاك لها من مؤامرات تستهدف تمزيقها والسيطرة عليها وتفريغها من محتواها بطمس تاريخها ومحو هويتها من خلال وسائل الإعلام والتعليم.
وهذه القضايا وغيرها من القضايا الإسلامية على الساحة العالمية، لابد من التفاعل معها من خلال الصحوة الإسلامية التي تناصرها شعوب الأمة في العالم الإسلامي كله غير ناظرة إلى تقاعس الحكومات وهذا بشير نجاح وأمل مرجو لمستقبل عظيم فقد وعت الشعوب دسائس الأعداء من طول التجارب وأصبحت تشعر بمسئوليتها وذلك دليل أن أمتنا بفضل الله لن تموت.
إن بلادنا لكي تنهض مقوماتها وتحقق رسالتها تحتاج إلى جهود في البناء الاجتماعي والاقتصادي والتربوي والعلمي، وأساس هذه الجهود أن يكون الإسلام هو الموجه والقائد للمجتمع فى كل الميادين والمجالات، وأن تتجه الحياة كلها وجهة إسلامية – وهذا ما نسعى إليه – وتصطبغ بالإسلام عقيدة ومفاهيم وتربية وهو ما تحمله الدعوة التى ننتمى إليها من خلال مشروعها الذى يقيم الحياة على دعائم تنطلق من الإسلام الذى كرم الإنسان ورسم له طرق الفلاح والرقي بما قدم من مبادئ أقامت الإنسان على سنن راشد، وما تزال محفوظة فى مصدرى الإسلام – الكتاب والسنة - تعطى للآخرين ما أعطت الأولين.
والمشروع الإسلامى لنهضة الأمة يتجه إلى إقامة بنائها على دعائم راسخةٍ تستوعب القيام والاستمرار ولنا فى مصادرنا غناءٌ لتحقيق هذه المقومات للمجتمع المنشود الذى يحمل رسالة الإسلام، وأول هذه المقومات العلم، فقد كان أول ما خوطب به صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ليكون بداية التكوين (اقْرَأْ) (العلق: من الآية1) (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:4-5) وإذا كانت القراءة والقلم والتعليم، فسوف نقرأ ونتعلم، فيحدث النهوض والتقدم والرقي الفكري والعقلي والنفسي، وسوف نتلقى ما يحقق مقومات النهضة فى صورتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية، من هنا ظهرت الحفاوة بالعلم وطلبه، والازدياد منه، والإشادة بشأنه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طـه: من الآية114) (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (الزمر: من الآية9).
لقد وعت حضارتنا قيمة العلم والتعليم، ولم تقف منه عند سطحه وقشوره، بل اتجهت إلى توظيفه فى كشف أسرار الكون أرضه وسمائه مادياته ومعنوياته (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:37-38).
فتنوعت الدراسات وتشعبت المنجزات، وانتشرت المدارس يؤمها طلاب المعرفة من المسلمين وغيرهم، وعرفت مراكز العلم فى الأندلس والقاهرة وبغداد، وبرع من المسلمين علماء فى مجالات متعددة صاروا أساتذة فى علوم الطب والفلك والرياضيات والجغرافيا حتى شع نور حضارة الإسلام على الأرض جميعا وسطعت شمس الإسلام على الغرب، وما يزال المنصفون من علماء الغرب يقرون بفضل حضارتنا عليهم .
وما تزال مصادر حضارتنا صالحة أن تعيد الكرة كي تسطع شمسها من جديد، وذلك ما ندعو له ونعمل من أجله حتى نكون أهلاً لوراثة الأرض التى وعد الله أنها للصالحين (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105) والصلاح لوراثة الأرض يكون بامتلاك مفاتيح الوراثة ومتطلباتها من الإيمان والعلم والقوة، لأن المال لا يستحقه السفهاء، فما بالنا بالأرض كلها حياةً وتمكيناً وتصريفاً وإحياءً.
وذلك يتطلب حسن النظر فى مشروعات التعليم والتربية لتقوم على أساس البعد عن الحشو والقشور والسطحية والتجارب الغريبة عن أرضنا، وأن يقوم على هذه المشروعات أمناء يشفقون على هذه الأمة وينطلقون من تاريخها وهويتها ويستفيدون من حكمة الآخرين بعد النظر الدقيق والتعرف الوثيق.
إن مشروع التعليم إنما يحقق النجاح المؤمل لهذه الأمة إذا انطلقت أهدافه من المصادر التى أنشأت خير أمة، ومن الرغبة فيما تصبو إليه هذه من تحقيق آمالها فى حياةٍ لمجتمعٍ متماسكٍ عفيفٍ واقتصادٍ طيبٍ يوفر الحياة الكريمة لكل فردٍ في عدالةٍ شاملةٍ وأمانةٍ تحول دون الغش والسحت وسوء الاستغلال، واهتمام بالإنسان الفرد طفلاً وفتىً ورجلاً وامرأةً كلٌ ينعم بجسمٍ قوىٍ يستعصي على الآفات، وفكرٍ يبرأ من الدخن والشبهات، وخلقٍ متينٍ يعلو على التلون والارتكاس في المهلكات، واقتدارٍ على اكتساب الرزق، وجهادٍ يصون النفس عن الهوى ويحفظ الأمة من الردى، وبصرٍ بالحاضر، وشخوصٍ إلى المستقبل ينتقل بالأمة إلى غدٍ أحسن في ظل الإسلام العظيم.
فتلك أسس النهضة لكل أمةٍ وبغيرها لا يتم البناء، فهل وعينا دورنا والآمال المعقودة علينا والمهام المطلوبة منا... فهيا أروا الله من أنفسكم حسن التوجه وصالح العمل وفقكم الله وسدد خطاكم وحفظكم وتقبل منا ومنكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المستشار/ محمد المأمون الهضيبي
المرشد العام للإخوان المسلمين
القاهرة:8 من شوال 1423هـ
الموافق 12-12-2002م