التاريخ : الجمعة 25 مارس 2022 . القسم : رسالة الأسبوع

نداء إلى عقلاء العالم بإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية


سم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد..

فقد طال أمد الحرب الناشبة بين روسيا وأوكرانيا أكثر مما تصوره من أشعلوها، وأخذ العالم يتجرع مراراتها الأولى، مترقبًا مآلاتٍ مفزعة قد تؤول إليها، بدءًا بأزمات اقتصادية متسارعة تخيم بظلالها الكئيبة على العالم - وبخاصة في مجالات الطاقة والغذاء- وهو لم يتعافَ بعد من آثار جائحة كورونا، وما خلَّفته من تضخم وبطالة وكساد، مرورًا بمعاناة ملايين اللاجئين والنازحين، وانتهاءً باحتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، من المؤكد أن ضحاياها سيكونون بالملايين بين أطراف متصارعة تنوء خزائنها بأكداس السلاح النووي والكيميائي، وتمتلك أسباب الحروب البيولوجية والإلكترونية، ولن تقف آثارها الكارثية عند هؤلاء المتصارعين، بل ستدفع أثمانها الباهظة البشرية جمعاء.

ومازلنا ندعو إلى تحكيم نداء العقل والحكمة، وإعلاء صوت الضمير الإنساني، منطلقين من مبادئ الإسلام التي تؤثر السلم، وتكره القتال إلا عن اضطرار لا بُد منه، كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) سورة البقرة آية 216، وقال: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) سورة الأنفال آية 61.. تلك المبادئ التي تحترم كرامة الإنسان، وترعى حقوقه مهما اختلفت عقائده، وتنوعت أجناسه وعناصره، كما قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء آية 70، وتدعو إلى التعارف والتعاون، لا التدابر والتعادي، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات آية 13..

ونذكِّر بأن عالم اليوم يضج بمشكلاته، واضطراباته، ومآسيه، فلا حاجة به إلى مزيد من البلاء والدماء والضحايا والأشلاء، تدفعه إليها الحسابات الخاطئة، وغرور القوة، وهوس التوسع ومد مناطق النفوذ، وأوهام صناعة أمجاد زائفة لن تجني الإنسانية منها شيئًا غير مزيد من التخريب والدمار، وكان الأولى أن تنفق تلك الملايين المهدرة لتخفيف معاناة البشرية، وأن تتجه تلك الجهود لإرساء العدالة والسلام. وحل مشكلات الجوع والقهر، في عالم استفحلت فيه المظالم، وأصبح مهددًا في بيئته وموارده.

إن معالجة الأزمة الحالية تحتاج إلى التفاوض والحوار؛ وليس إلى الاحتكام إلى القوة في الظروف الدولية الراهنة، مما يؤذن بأخطار ماحقة سيدفع العالم كله كلفتها.

وإن النظام العالمي بمؤسساته الدولية، وقيمه الحاكمة قد أثبت فشله، والعالم اليوم يتطلع إلى نظام عالمي جديد، وإن منظمة الأمم المتحدة التي تتحكم خمس دول كبرى في قراراتها - وما شابهها من منظمات دولية - قد أصبحت أدوات لتعزيز مصالحها، وضمان استمرار سيطرتها، وفي سبيل ذلك تهدِر قيمَ الديمقراطية التي تتغنى بها، وقيم العدل والحرية التي تحول بغطرستها دون تحقيقها، ودون مشاركة بقية دول العالم في تقرير مصيرها، وصياغة رؤية مشتركة للأمن والسلام، وتوزيع عادل للثروة، وإنهاء المظالم، وضمان حقوق الإنسان.

لقد دفعت البشرية ثمنًا فادحًا في الحرب العالمية الأولى التي تسببت في مصرع أكثر من ثمانية ملايين ونصف مليون جندي، وحوالي 21 مليون جريح، ومقتل ما يقرب من 10 ملايين مدني. حتى أدرك العالم وجوب تأسيس عصبة الأمم عام 1919، للحفاظ على السلم الدولي، غير أن عصبة الأمم لم تكن قادرة على منع الحرب العالمية الثانية التي تراوح عدد ضحاياها ما بين 62 إلى 78 مليون قتيل.. فهرع الساسة إلى الدعوة لتأسيس الأمم المتحدة سنة 1945، فلم تفلح هي الأخرى في منع الحروب والجرائم التي ما إن تخبو في موضع إلا وتشتعل في آخر.

وعالمنا اليوم لا يطيق نشوب حرب عالمية ثالثة لن تبقي ولن تذر.. فمتى يتداعى الساسة وصناع القرار إلى صياغة منظومة دولية عادلة تحول دون تجدد الصراعات فيه، وتتشارك فيها كل دولة وقوتها الفاعلة، على قدم المساواة والعدل؟

إن الأزمة الحالية أظهرت ما كانت بعض القوى الكبرى تحاول إخفاءه من عنصرية طاغية تحكم تصرفاتها، والكيل بمكيالين –بل بمكاييل شتى– في معالجة الخصومات والقضايا والصراعات.. من ذلك موقف تلك القوى مما جرى للمسلمين في البوسنة، وما جرى ويجري في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، حيث تسببت في إرساء المظالم، والعصف بالمستضعفين، وغض الطرف عن الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية بأسرها..

وإن الناظر إلى مجريات القتال في الحرب الروسية الأوكرانية لا يملك نفسه إلا أن يقارن بينها وبين ما جرى في الحروب ضد المسلمين، حيث كانت تُدمر حواضر بأسرها، وتتحول العواصم الزاهرة إلى مدن أشباح وأطلال، ويُستهدف المدنيون العزل حتى في مخابئهم، ويصبحون فئران تجارب لأحدث أنواع السلاح.. مع تأكيد إدانتنا لكل عدوان وظلم في كل زمان ومكان.

كما افتضح موقف الغرب المشين إزاء اللاجئين في الحرب الأوكرانية، حيث ظهرت العصبية المقيتة في التفرقة بينهم بالنظر إلى ألوان بشرتهم، ومعتقداتهم، فكثيرًا ما لقي الأوربيون البيض الرعاية والعناية، بينما عُومل الملونون والمسلمون بغير ذلك.. وقدمت المعونات السخية إلى بولندا وغيرها من الدول التي استقبلت اللاجئين، فيما يلاقي اللاجئون السوريون ألوان الهوان والمعاناة في خيم الإيواء التي لا تغني شيئًا في برد الشتاء القارص وسط الثلوج، حيث لا غذاء ولا تدفئة ولا مأوى كريم. ويعاني اللاجئون الفلسطينيون في حياة المخيمات، ويشكو اللاجئون الأفغان تداعيات حروب ظالمة استمرت عقودًا من الزمان.

إن هذه الاختلالات في معالجة النزاعات الدولية والانقياد لأهواء التعصب الديني والعرقي سيؤدي إلى مزيد من الاحتقان والغضب، وخير للقوى المتحكمة في عالم اليوم أن تنزع أسباب ذلك الغضب، وتنقاد إلى مقتضى العدل وموازين الحقوق.

إن الحضارة المادية الحاكمة في عالمنا تثبت من جديد عجزها عن إدارة مشكلات العالم، ومجابهة تحدياته، صحيح أنها قد أسدت إلى البشرية معروفًا غير منكور في منجزاتها العلمية والتقنية، لكنها أعقبته طغيانًا سياسيًا، واستعمارًا عسكريًا واقتصاديًا، واستلابًا فكريًا، وإفلاسًا روحيًا، وتركته يتقلب في شقاء مرير، وأذاقته ويلات حروب أفقدته حريته وإنسانيته، وجعلته سلعة استهلاكية تستغلها الرأسمالية المتوحشة، أو الاشتراكية المستبدة، ولم يعد من الحكمة أن يتجاهل العقلاء في عالمنا هذه السوءات والمخازي، كما لم تعد تلك الحضارة صالحة لأن تستمر في طريقها مخاصمة لوحي السماء، ودين الله، وهداية المرسلين.

وختامًا فإننا ونحن نحمل رسالة الخير للعالمين؛ لنؤكد أن عالمنا اليوم في مسيس الحاجة إلى الانفتاح الفكري والشعوري على ما يحمله الإسلام من قيم ونظم؛ كفيلة بإنقاذه مما يهدد حاضره ومستقبله من مخاطر وآلام..

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

أخوكم إبراهيم منير

نائب المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون) والقائم بالأعمال

الجمعة 22 شعبان 1443هـ ؛ الموافق 25 مارس 2022م