التاريخ : الخميس 23 يونيو 2022 . القسم : رسالة الأسبوع

أعدوا أنفسكم بالتربية الصحيحة وامتحنوها بالعمل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

" قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ۖ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)" ... سورة سبأ.

الأخوة الكرام 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله وبعد انقطاع لم يطل والجماعة تواصل صعودها لتصل بإذنه وعونه تعالى إلى بدايات المائة الثانية من عمرها وعملها، قد يكون من المناسب مع تواصل الأجيال، ونحن الآن في منتصف القرن الخامس عشر الهجري العودة إلى القرن الرابع عشر الهجري ورسالة كتبها الإمام الشهيد حسن البنا وهو في الثلاثينات من عمره، لشباب جيل الأربعينيات الميلادي موضحا فيها غايته من الدعوة إلى الجماعة قدمها بالآيات الكريمة السابقة من سورة سبأ بعد أن وضع لها عنوانا " دعوة الإخوان المسلمين أو دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري " وحدد فيها الهدف في سبع عناوين جامعة هي:

"الفرد المسلم – البيت المسلم – المجتمع المسلم – الحكومة المسلمة – رفع راية الله خفاقة عالية – إعلان دعوتنا للعالم كله" 

وهي العناوين أو الأهداف التي بايع على العمل لتحقيقها جيل الأجداد ثم الأجيال التي جاءت بعده وصولا إلى ما يمكن أن نقول عنه جيل أحفاد الأحفاد الذي بفهمه وعمله ومشاعره مع الأجيال السابقة عنه رغم اختلاف الثقافات وطبيعة البيئات وتنوع الأحداث، يستمر في السير بثقة ويقين في تحقيقها موقنا بأن أي عنوان من هذه العناوين السبعة بمفرده لا يمكن أن يحدث ما يحدثه إذا ما اجتمعت سويا في منظومة واحدة متكاملة.

وبعد أن أبان الإمام المؤسس عليه رحمة الله أن في الرسالة واجبات للعمل على تحقيق هذه المستهدفات، أكد على أن:

" واجباتنا نحن الإخوان أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة لا ازدياد فيها ولا نقصان، ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا ...

وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل لها وذلك هو الجزء العملي من فكرتنا...

ولأن الأمر ليس خطبا تقال في منتديات ولا حديثا يتم إطلاقه يُسكن المشاعر، في القلوب والعقول، فقد اتبع الإمام رحمه الله حديثه، بمعنى محدد أكد عليه في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان " متى تكون خطوتنا التنفيذية؟ قال فيه: 

 " إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ .

يسهل على كثيرين أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكن قليلا منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني .

وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، وفي قصة طالوت بيان لما أقول، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل، العمل القوي البغيض لديها الشاق عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها".

وقصة طالوت أيها الأخوة الكرام التي أخذنا إليها الإمام هي التي تنير أمامنا نهج التغيير والتوفيق في عمل سيدنا داوود عليه السلام، وتحدد طبيعة الصراع بين قوى الخير والشر، ومعالم الهدى والضلال بدروس مستفادة في دفع الباطل، تجليها سورة " ص " في توجيه رباني لرسول هذه الأمة في تبيان العدة الواجبة في قوله تعالى " اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)"

لتتأكد بالرسالة الإلهية أن العبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى وحده المصحوبة بالقوة على الطاعة والاحتراز من المعاصي هي السبيل ...

ولأن الإمام البنا رحمه الله كان قد وعى حجم ومدى ما هداه الله إليه بجعل الأهداف السبعة في كينونة واحدة، فبدأ عمله بعد زلزال الحرب العالمية الأولى وسقوط دول وصعود أفكار برز فيها قرون الشيطان، فكان أمينا مع نفسه ومع من رافقه في هذا العمل الرباني الذي حرص على أن يبتعد عن أن يكون عمل ضرار، يبني ولا يهدم، فكانت توصيته الملهمة إلى أصحابه وأجيال الجماعة من بعده:

أيها الإخوان:

أحب أن تتبينوا جيداً من أنتم في أهل هذا العصر؟... وما دعوتكم بين الدعوات... وأية جماعة جماعتكم... ولأي معني جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ .

فاذكروا جيداً أيها الاخوة... أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد صلى الله علي وسلم وخلفاء صحابته من بعده، فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم علي الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقى لا انفصام له، وأخذتم بنور مبين وقد التبست على الناس المسالك وضلوا سواء السبيل،

والله غالب على أمره.

الأخوة الكرام 

بعد هذا العمر المبارك لجماعة الإخوان المسلمين كتجمع بشري عالمي، وفكرها الذي اجتمع عليه أعضاء هذا التجمع، قناعة ويقينا بصحة ما يحمله وينادي به، فالأمر يقتضي وقفة تقييم لما وفقها الله سبحانه ووصلت له من نجاحات، وأيضا لما ترتب عليه من بأساء تنزلت عليها بسبب الالتزام بفكرها المرتكز على ما تعتقده من أنه صحيح، لموافقته الأصيلة لكتاب الله سبحانه والثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومع صعوبات السير ومعوقاته الآن، فإن سيل الكتابات عن الجماعة وما يتم رصده منها حتى الآن، ليس من المبالغة في القول عنها أنها تتم بشكل يومي طوال هذه السنين، وما يحتويه من رؤى قد يكون الصف قد تناساها أو لم يعطها حقها حين يرسم سياسات عمله.

وبداية البأساء كانت منذ الأيام الأولى لقيام الجماعة بمحاولات شراء ولائها، مما وصفه الإمام المؤسس في قوله: "يا معشر الاخوان ستعتقلون وستصادر أموالكم وتحاربون وتفصلون وتصابون وتبتلون في أهليكم وأعمالكم ..... فإن كنتم في ذلك فاعلموا أنكم بدأتم تنتهجون طريق الدعوات"

ودون سرد نتائج بعض الاجتهادات الخاطئة في العمل المجتمعي في بعض الأقطار، فإن أشدها "كمثال" ما حدث في القطر المصري بخروج البعض من مسئولي العمل عن مقتضيات ثوابت فكرها وعن أمانات البيعة في أحداث اغتيال القاضي الخازندار في22 مارس 1948، ثم تكرر الأمر في اغتيال رئيس الوزراء المصري النقراشي في 28 ديسمبر 1948 - والجماعة في محنة - كاد الإمام البنا أن يصل وقتها إلى حلول للمحنة، ليأتي رد النظام على الحدث باغتيال الإمام رحمه الله إضافة إلى ما لحق بالجماعة من أمور، كانت هي بكل تأكيد منه بريئة.

وفي عام 1954 الذي شهد مؤامرة النظام العسكري، واستغلاله لاجتهادات فردية خاطئة جرت بتجاوز قيادة الجماعة ليحدث ما حدث وتقع محنة قاسية سجلها التاريخ...

ثم تأتي أحداث عام 1965 وما وقع فيها من اجتهادات للبعض سارت على نهج الأخطاء السابقة، التي حسمها تصرف القيادة بإلزامها الصف بكل أماناته لتمر معه بفضل الله أيضا فتنة التكفير بسلام على الصف وعلى عمل الجماعة وعلى مسارات وتوجهات العمل الإسلامي الصحيح على مستوى العالم.

ولأمانة الكلمة والتاريخ فإن أكبر بأس يقع على الجماعة هو عندما يأتي البلاء بسبب تصرفات تقع على أيدي بعض مسئوليها أو من تأتمنهم الجماعة، حين يتجاهلون بعض أركان البيعة على تصور أنهم الأدرى بما يفيد الجماعة دون سواهم ...

وفي هذا السرد التاريخي لعله من المهم الإشارة وباختصار شديد إلى أمرين يمكن أن يقال عنهما أنهما من ثوابت ونصاب البقاء للجماعة اللذان صاحباها منذ البدء من قبل أربعة وتسعين عاما " مارس 1928- يونيو 2022 " ليس أولها الصبر على البلاء بل أيضا التوفيق الرباني في معالجة آثار بعض أخطاء الماضي والدفاع عن صحيح الدين ومقاومة محاولة حرف مسارات العبودية لله وحده.

وعن الأولى وهي الثبات والصمود أمام الحملات العسكرية التي أسقطت دولة الخلافة في تركيا وامتدت لتقطيع خريطة الدولة الواحدة مع بلاء الاحتلال الذي حط على الكثير من بقاع الأمة ومنها ما حدث لكشمير في الهند والأرض المباركة حول المسجد الاقصى، وكان على الجماعة كغيرها من نخب الأمة ضرورة التعامل مع هذا البلاء، فكان توفيق الله أن قدمت له الكثير دون اليأس من عدم قدرة البعض على مواصلة القيام بواجب الأمانة وتحمل تكاليف العمل، فسارت دون التفريط في الحفاظ على أمانة الفكر والصف الواحد.

وجاء مع هذا التحدي واجب التصدي لأفكار وإيديولوجيات وقفت خلفها امبراطوريات ودول وحكومات بدأت في سنوات متقاربة مع بدايات الجماعة مثل الشيوعية والماركسية والقطرية والبعثية والعلمانية والليبرالية والقومية، يجمعها كلها إنكار الدين أو الإيمان ببعضه واستبعاد البعض الآخر.

وبعضها ما كان يتم نسبته إلى أشخاص الحكام والرؤساء مثل الناصرية "نسبة لجمال عبد الناصر في المنطقة العربية و"البانتشاسيلا" في إندونيسيا....

ومع كل هذه التحديات فقد استمرت الجماعة في مسيرتها متحملة مسئولياتها تجاه أماناتها.

ولم تكن توابع الأمور مجرد خلافات في صالونات وإنما كانت دماء تراق وتهجير ونفي وسجون، إلى أن وصلنا الآن وبعون الله وحده إلى حصاد وقفات الثبات والصمود على الحق وقد ذهبت كل التحديات الفكرية التي حاولت إبعادنا عن الربانية هباء منثورا، وبقي فكر الجماعة الذي هدى الله سبحانه وتعالى إليه الإمام المؤسس وشاركه من صدق البيعة وحافظ على حدود ومعالم ما قام به متحملين حرارة القيادة وتكاليفها، ورموز أخرى توافقوا على نفس النهج في القارة الهندية منهم الأستاذ أبو الأعلى المودودي والأستاذ أبو الحسن الندوي وغيرهم رحمهم الله جميعا ومعهم كذلك من مازال يتدفق من عطائه الخير في أرجاء مختلفة من العالم، وما يقوم به إخوة وأخوات كتب الله عليهم الهجرة وفراق الأوطان على قسوتها ليكونوا مددا لنهر صحيح الفكرة، ولتشكل هذه النخبة بانتشارها على وجه الأرض العنوان الجامع الذي يحاسبنا عليه الآخرون.

وعن الثانية التي يمكن القول عنها أنها كانت من داخل الأمة وأصحاب القبلة الواحدة وإن حملت معها آثار التجمد أو الوقوف أمام أحكام وفتاوى سابقة لم تعشها وتدركها أيضا أجيال في الجماعة، باجتهادات في أمور ليست من صلب الدين من قبيل الالتزام المطلق بالمذهب الذي عليه مجتمع محدد غير ما يتوافق عليه مجتمع آخر مثل صفة إمام الصلاة ومذهبه وحتى صحة عقد الزواج بين أصحاب المذاهب المتنوعة "وكلهم من أهل السنة" إلى مقياس اللحية والملبس وما شاكلها، وحق المرأة في التعلم ودورها في الدعوة إلى الله وفي العمل المجتمعي، والتي كانت تحول دون الوصول إلى صحيح الاقتناع وصحيح العمل.

فكان هذا ميدان آخر، ثابرت الجماعة فيه وصبرت وتواصل عملها فكرا وعطاء حتى ساد معه الفهم والفكر الصحيح أمام هذه المظاهر...

الإخوة الكرام 

ليس من اليسير إغفال ما واجهته الجماعة في ماضيها وحاضرها وما هي عليه الآن في واقع صفها الداخلي وفيما هو محيط بها، وهو ما يفرض علينا جميعا أمانة مواصلة الطريق رغم كل الصعوبات وما ترتبه عليها من أثقال، لنعود مرة أخرى إلى ما تركه لنا الإمام الشهيد – رحمه الله - ليس تقديسا له ولا افتخارا به على أحد، ولكن لتلمس الصدق المتكامل مع ما بايعنا الله عليه ... 

وتذكرة بما جاء في رسالة " دعوتنا " قبل أكثر من ثمانين عام حين قال:

"أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعا، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسموا بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها". 

نحن الإخوان المسلمين لنهتف من كل قلوبنا:

"الله غايتنا" فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) . 

وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعاً فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً ، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح .

فإلى العمل أيها الإخوة الكرام

ولن يترنا الله أعمالنا

والله أكبر ولله الحمد

إبراهيم منير

 نائب المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمون" والقائم بالأعمال

الخميس 24 ذي القعدة 1443 ه ؛ الموافق 23 يونيو 2022 م