التاريخ : الجمعة 18 نوفمبر 2022 . القسم : رسالة الأسبوع

وترجل الفارس النبيل.. قادة يرحلون ودعوة باقية


بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد….

"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًاسورة الأحزاب الآية (23).

وترجل فارس آخر من جيل العظماء الذين لم يتبق منهم إلا القليل ... والذين يُعَدون على أصابع اليد الواحدة ... ذلكم الجيل الراقي في فهمه، الرائع في عطائه، العظيم في تحمله ... إنهم الرعيل الأول من جماعة الاخوان المسلمين.

توفي الأستاذ إبراهيم منير أثناء حراسته للثغر الذي ظل واقفا عليه طوال سبعين سنة في جماعتنا المباركة، حتى وافته المنية وهو مقيم عليه … فلم يُغير ولم يُبدل حتى لقي الله على بيعته غير ناكص ولا مفتون ... رغم تغير الدنيا وأحوالها طوال خمس وثمانين سنة هي كل عمر الرجل العظيم.

توفي ربيب المرشدين، ورفيق المصلحين... وعطر تربيتهم له ما زال عالقا في أخلاقه...فهو هو_ رحمة الله عليه -نقي السريرة، باسم المحيا، حيي التعامل، حلو المعشر، وهو هو كذلك سداد الثغور، قوي العزم، الشديد في الحق ولو على نفسه والأقربين.

توفي الأستاذ، وله في كل مكان بصمة خير، وفي كل مسئولية تأثير منير …عرف طريق الحق مبكراً ... (شابا نشأ في عبادة الله) ... ودخل جماعة الاخوان المسلمين فتى يافعاً، واعتقل وهو في الثامنة عشرة من عمره بتهمة مساعدة أسر المعتقلين!، ليُحكم عليه بالسجن خمس سنين (1955-1960) ... ليخرج بعدها لا ليقعد في بيته بل ليستأنف العمل ... ويُعتقل مرة أخرى عام 1965 ويحكم عليه بعشر سنين أخر ... ما ضعف ولا استكان ولا استسلم لظلم أو طغيان ... فقضيته قضية دين وعقيدة ... ومطلبه حرية بلده ومواطنيه ... وأمله تطبيق شرع الله في أرضه ليسود الحق والعدل ويعم الخير والمرحمة ...

وفي السجن كان مسئولاً - مع أخوين آخرين - عن إخوانه في أشد الأوقات كرباً ... وخرج من هذا السجن ثلاثة من المرشدين العظام (الأستاذ محمد حامد أبو النصر.. الأستاذ محمد مهدي عاكف.. والدكتور محمد بديع) ... كلهم وثقوا به وأعطوه ولائهم ورضاهم ليدير أمورهم ويدبر أحوالهم ... وحين خرج من السجن عام 1974 سافر ليعمل محامياً في الكويت وكان من الممكن أن يستمر هناك.. هانئ البال، وفير المال ... لكنه تحرك الى أوروبا - بأمر من الجماعة - داعيا الى الله تعالى ناشراً لفكرته الإسلامية الصحيحة عاملاً لدينه ليل نهار ... وحين استقر في الغرب ظل ينافح عن الدعوة، ويبين حقيقتها الناصعة وينشئ المؤسسات الخيرية، ويؤتمن على إخوان الدنيا … فلا يُرى إلا وفيًا سخيًا نبيلاً ... جاب بلاد العالم ... عاملا لدعوته، متفقداً لأحوال الإسلام والمسلمين في أكثر من ثمانين دولة ... من شرق آسيا إلى إفريقيا ... ومن أوروبا إلى الأمريكتين ... يعمل في صمت ٍ... لكن في دأبٍ عجيب ... وفي قلب هذا كله اهتمامه بقضية فلسطين محور اهتمام الإخوان المسلمين والعالم الإسلامي.

وتستطيع أن تقول عنه مقولة أخيه الأستاذ يوسف ندا عن نفسه وعن إخوان جيله أنهم معجونون بماء الإخوان، فالدعوة روحه وأنفاسه، لا يتخيل أبدا أن تصاب بأذى وهو حيٌ يرزق ...

في أبريل عام ٢٠١٤ طالب رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد كاميرون بإجراء مراجعة داخلية للإخوان المسلمين بما في ذلك أصولها وأيديولوجيتها وسجلها داخل وخارج الحكومة؛ وتنظيمها وأنشطتها في المملكة المتحدة وخارجها، تمهيداً لتصنيفها جماعة إرهابية ... ولو حدث ذلك - لا قدر الله - لعانى الاخوان في كل أنحاء الدنيا من الملاحقة والمطاردة والمصادرة ... فانبرى الأستاذ حينها - وهو ابن السابعة والسبعين من عمره آنذاك - يجمع الأوراق، ويتردد على أروقة مجالس صناعة القرار مع إخوانه لعدة أعوام حتى أطفأ نارهم وأنقذ إخوانه وجماعته من هذا التصنيف الجائر ليثبت حقيقة هذه الجماعة المباركة كما دُوِّن في الوثائق الرسمية أنها (حائط صد ضد التطرف).

 

وحين اقتضت ظروف الجماعة عام 2020 أن يقودها ... بعد اعتقال أخيه الدكتور محمود عزت -فك الله أسره- ... أبى أن يهمش دَوْرَه، أو يكون مسئولا بلا مسئولية ... فبذل جهده من أول يوم في استكمال مؤسساتها، وتحريك ما ركد من ملفاتها، وتجميع ما تفرق من رجالها ونسائها وشبابها وكفاءاتها ... وكأنه يسابق الزمن، أو هكذا كان يفعل، فكثيرا ما كنا نسمعه يقول:

"الآجال بيد الله، وأنا أشعر بدنو الأجل، وأريد أن أنجز ما عقدت العزم عليه مما أحب أن ألقى الله به

ورغم حملة تشويه ظالمة لشخص الرجل وسلوكه وقدراته ... (وكأن هناك أيدٍ خفية) تعمل لهدم الجماعة في الداخل والخارج ... تحمل الرجل هذا كله، وأصر على استكمال بناء مؤسسات الجماعة ... وتم له ما أراد ... فاستطاع - خلال سنتين فقط - أن يدفع بشبابها إلى مقدمة الصفوف، وأن يبعث الأمل في النهوض من الكبوة الأخيرة إلى آفاق فتح قادم بإذن الله ... وذلك لصدقه وإخلاصه وثباته وتقواه ... وأكرمه الله فوق ذلك ببرائته من كل محاولات التشويه والشيطنة ... وصدق فيه وفينا قول الحق وتعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ ۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهًا) ...

 

ولقد كنت والله (وجيهاً) يا أبا أحمد ... بريئاً عفيفاً طاهراً حليماً ... وكان لك من اسمك نصيب، مقتديا بخليل الرحمن عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٌ مُّنِيبٌ) ... وعشت على هدي سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) ... 

 

وكان من لينه ورحمته - رحمه الله - أن لا يذكر قضايا المعتقلين وأسرهم وأبنائهم وزوجاتهم إلا وتفيض عيناه بالدموع، وقد وضع هذه القضية على رأس أولويات العمل بالجماعة ... وكان رغم كبر سنه يطوف الدنيا ويتنقل بين المسؤولين ليبحث عن مخرج كريم لهؤلاء المظلومين.

 

وإن تعجب فالعجب ما سمعناه عن الأستاذ بعد موته ممن تكلموا عنه في سرادقات عزائه التي ملأت الدنيا … فقد ذكروا من خفايا أحواله، وجليل أعماله ما جعل بعضنا يعض على النواجذ حسرة وندماً أنه لم يلتصق به ويرافقه ويتتلمذ على يديه أكثر مما كان يفعل أثناء حياته.

والأشد عجبا هو ما طالبت به عائلته الكريمة - تنفيذا لوصيته - ألا يقام له تأبين ... كيلا يكثر المادحون في إطرائه وذكر محاسنه، فهو أقل في نظر نفسه مما سيذكره إخوانه وتلامذته عنه في مثل هذا المقام.

أما في حياته الشخصية فحدث عن البساطة والزهد والتواضع والرضا بالقليل ... عاش في منزل متواضع من حجرتين، وكان في خدمة أهله، يقود سيارته بنفسه وهو في الخامسة والثمانين من عمره، لا خادم يخدمه، ولا حارس يحرسه، وهو من هو في السبق والدعوة والمسؤولية والمنصب.

ذلك هو الأستاذ إبراهيم منير، الذي ادخره الله للدعوة في أحلك الظروف وأقسى الساعات فكان نعم المُدَّخر، ونعم المؤتمن.

والجماعة وهي تودع هذا الجبل الأشم لتتمنى على تلامذته، وتشد على أيديهم أن يحذوا حذوه، ويسيروا سيره متأسين في ذلك بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان متأسيًا فليتأس بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"

 

وقد كان أستاذنا على الخير الذي رأيناه وسمعنا عنه مما نعلمه جميعا، فلنسع سعيه حتى يختم لنا بمثل خاتمته…لأن النهايات الحسنة ما هي إلا مكافأة ربانية للعاملين بدأبٍ في سبيل الله.

أخيرا…

ورغم أن مصاب الأمة كبير برحيل الأستاذ إبراهيم منير -رحمه الله- كأحد أبرز أعلام الدعوة الإسلامية في عالمنا المعاصر. إلا أنه -رحمه الله- قد برهن في حياته وبعد وفاته أن هذه الدعوة محفوظة بحفظ الله لها. وما أفل يوماً نجم قائد إلا بزغ نجم آخر …كما قال الشاعر:

إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ           قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ.

     وإن كنا أحببناه في الله كل هذا الحب ... وتتلمذنا على يديه ... وتعلمنا من أدبه الجم وخلقه المتين ... فذلك يذكرنا بالدعاء لرفيقة دربه وشقيقة روحه، السيدة الصابرة المحتسبة (أم أحمد)، ولأبنائه الثابتين على طريقه من بعده بإذن الله: عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، وألحقنا وإياكم بفقيدنا وفقيدكم - بعد عمر مديد في طاعة الله - غير مبدلين ولا مفتونين: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍۢ ۚ كُلُّ ٱمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).

ولكل من عزَّانا من قادة الدول والوزراء ورموز العمل العام والإسلامي حول العالم ... شكر الله سعيكم، وأحسن عزاءنا وعزاءكم.

وإلى إخوانه ورفقاء دربه في جماعة الإخوان المسلمين، هذه سيرة ومسيرة أستاذنا الراحل ... تدفعنا لتجديد العهد والبيعة مع الله سبحانه وتعالى، وبشرى لنا إن التزمنا الطريق وأدينا الأمانة ووفينا بما عاهدنا الله عليه ... فاطمئنوا على مسار جماعتكم المباركة ... وقريباً إن شاء الله سيتم الاعلان عن الخطوات التي تم اتخاذها، وما نتج عنها من إجراءات تزيد الصف ثباتاً ومتانة.

وإلى محبي الإخوان عامة .... صف الإخوان وقيادتهم وعملهم وأدبياتهم تسير كما خط لها الأستاذ إبراهيم رحمه الله - في إجراءاته التي تحرك من أجلها ... ونتج عنها انضباط العمل ولم شمل أبناء الصف واكتمال الهياكل والحمد لله.

رحمك الله يا أبا أحمد، أتعبت من حولك، ومن يأتي بعدك، ولكنها شجرة الإسلام اليانعة (تُؤْتِىٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا). ونلتقي بك يوم القيامة، إن شاء الله تعالى في جنات ونهر (فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ).

 

والله أكبر ولله الحمد

د. محيي الدين الزايط 

القائم بتسيير أعمال المرشد العام بجماعة الإخوان المسلمين 

الجمعة 24 ربيع ثان 1444هـ؛ الموافق 18 نوفمبر 2022 م