التاريخ : الاثنين 28 نوفمبر 2022 . القسم : رسالة الأسبوع
ذكرى تقسيم فلسطين.. أرض الديانات السماوية
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه..
مرت علينا في أوائل شهر نوفمبر الحالي ذكرى وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917م، كما تمر ذكرى تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين منه عام 1947، ومثل كل منهما نقطة فارقة في تاريخ فلسطين الحبيبة، فقد أعطى وعد بلفور الصهاينة الحق في إقامة دولة لهم في فلسطين، وحقق الثاني لهم مرادهم بصورة عملية، إذ أعطاهم شرعية دولية جائرة بتأسيس دولتهم، بعدما قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 181 لسنة 1947 إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيم أرضها بإعطاء الصهاينة أكثر من 56% من أرضها، مقابل نحو 42 % للفلسطينيين، ووضع القدس الشريف وبيت لحم تحت وصاية دولية.
وحين تمر بنا تلك الذكرى الأليمة نتوقف عند هذه الحقائق التي لا يجوز إغفالها بشأن قضية العرب والمسلمين الأولى،
إن أرض فلسطين أرض الديانات السماوية وهي وقف لله تعالى، لا يجوز التفريط فيها بأية حال، وفيها القدس الشريف، أولى القبلتين، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعراجه الكريم إلى السماوات العلا، وعلى ثراها عاش الفاتحون من أصحاب النبي صلوات الله عليه، ومروا بها، وضرب الفاروق عمر حين فتحها أروع المثل في العدل الإسلامي والشعور الإنساني، وما زالت (العهدة العمرية) مثالاً للسماحة الإسلامية والفقه الرحيب في التعامل بين المسلمين ومخالفيهم في الاعتقاد.. وبها سالت دماء الشهداء من الصحابة ومن تبعهم بإحسان على مر العصور، ومن أجل حريتها ضحى المجاهدون بأرواحهم، ووقف صلاح الدين يحيي في الأمة روح الجهاد، فلما كُتب له الظفر كانت سياسته وما زالت هادية للبشرية في العفو عند المقدرة، والاستعلاء على نداءات الثأر وهتافات الغضب، فعفا عن أهلها، وهم الذين استباحوا دماء (سبعين ألفاً) من المسلمين عند احتلالها، حتى من لجأ منهم إلى قبة الصخرة - لعل قداستها تجلب لهم الرحمة في قلوب الغزاة - قتلوهم، فتكدست الجثث حتى علت أسوار المدينة المنكوبة، ثم خافوا الوباء فأحرقوها على من فيها ... وصدق فينا وفيهم قول الشاعر:
ملكنا فكان العدل منا سجيةً فلما ملكتم سال بالدم أبطحٌ
ولا عجب هذا التفاوت بيننا فكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
ستظل القضية الفلسطينية مثالاً حيًا على المظالم السياسية للغرب تجاه العرب والمسلمين، وانتهاك القانون الدولي الذي خطته أيديهم إذا خالف مصالحهم وأطماعهم، وهذان المثالان صارخان في الدلالة على ذلك: وعد بلفور، الذي أعطى فيه ما لا يملك إلى من لا يستحق؛ فأعطى أرضنا وحقوقنا إلى من لا صلة لهم بالأرض، ولا قرابة لهم للحق، بل قدموا من فجاج الأرض، وشتات العالم، لتتخلص بذلك أوروبا من مشكلاتها بتصديرهم إلينا، وجاء قرار التقسيم لتكمل خطتها باستمرار استنزاف الشرق الإسلامي، وتقويض أسباب نهضته.
واستمرت تلك المظالم حين كان الاستعمار مشروعًا غربيًا تتنافس فيه الدول القومية هناك، أو حين أسس الغرب المنتصر في الحرب العالمية (المنظمات الدولية) بزعم حماية السلم الدولي، فكانت تلك المنظمات إحدى أدواته لتكريس مظالمه، ومطيَّة لتحقيق أطماعه.. ولسوف تظل مهددات الأمن والسلم الدوليين قائمة ما لم يعتدل ميزان العدل؛ وينتهي ما يسمى (حق الفيتو) وسيطرة الدول الخمس الكبرى على الأمم المتحدة لتنفرد بتقرير مصائر العالم.
سيظل الكيان الصهيوني المغتصب الذي تأسس على الجور يعتمد في بقائه وتمدده على القوة الظالمة، فهو لم يعترف أبدًا بحدود دولته التي قررتها له السياسة الغربية، بل أعلن زعيمهم بن جوريون عن نيته في يونيو - 1938 أي قبل صدور قرار التقسيم بسنوات - في حديثه إلى قادة الوكالة اليهودية عن عزمه على الاستيلاء على كلّ فلسطين بعد تأسيس وطن لهم، كما صرّح مناحيم بيجين - وكان في ذلك الحين أحد زعماء المعارضة في الحركة الصهيونية- في 30 نوفمبر 1947 عن بطلان شرعية التقسيم!!، إذ لم تحقق كل آمالهم، وأن كل فلسطين ملك لليهود، وستبقى كذلك – بزعمه - إلى الأبد.. كما كانت سياسات الكيان الصهيوني ترجمة دقيقة لهذه الأطماع في حروبه المتكررة ضد العرب، وتوسعه على حساب أرضهم، وفي استمرار سياسة الاستيطان التي أوشكت أن تبتلع ما تبقى للفلسطينيين من أراضٍ.
لقد فشلت الأنظمة العربية الرسمية على امتداد عقود المحنة في تحرير الأرض السليبة، بل فقدت الدول العربية كثيرًا من أراضيها بهزائمها المتكررة أمام العدو، ومفاوضاتها الدائرة معه في السر والعلانية، ثم كللت مسيرة الضعف والهوان بالهرولة في اتجاه التطبيع معه، والاعتراف به.. وهي في ذلك كله تؤكد الحقيقة القائلة بأن فاقد الحرية لا يهبها لغيره.
لقد ارتضت تلك بعض هذه الأنظمة أن تقف في خصومة مع شعوبها، بل لم يتورع بعضها من أن يخوض الحرب العلنية عليها، ووقفت حجر عثرة أمام سعي تلك الشعوب إلى جهاد العدو، ولا يغيب عن الذاكرة ما فعلته بعض الأنظمة العربية فيما قبل نكبة 1948 حين خذلت المتطوعين المجاهدين في قتالهم، وامتنعت عن تلبية نداء مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني بمساعدتهم، ورجاءات المجاهد عبد القادر الحسيني بمده ببعض السلاح المكدس في جيوش الحكام العرب؛ حتى قضى شهيدًا في (معركة القسطل)، وهو يدافع عن القدس الشريف قي أبريل عام 1947؛ قبل إعلان قيام دولة العدو بشهر واحد.. كما لا ننسى دور النظام المصري آنذاك الذي ساق جموع المجاهدين المتطوعين من الإخوان المسلمين من ساحات الحرب إلى غياهب السجون والمعتقلات!!.. وما زال موقف بعض الأنظمة العربية من المقاومة الحرة في غزة والقدس الشريف موقفً خزي وهوان، فلم يقتصر على منع السلاح والدعم المادي عنهم، بل امتد إلى تجريم جهادهم، ووصمه بالإرهاب والتطرف، وحصارهم، ومنع الغذاء والسفر والعلاج عنهم.
إن موقفنا نحن (الإخوان المسلمون) من القضية الفلسطينية لم يتغير برغم ما لاقيناه من اضطهاد الأنظمة المتعاقبة، وتشريد شبابنا ورجالنا ونسائنا بغية إرضاء الصهاينة والغرب، فموقفنا نابع من (عقيدة راسخة) لا تتزلزل بأن فلسطين ميراث أمتنا من أوليائها وصالحيها، وأمانة طوقت بها أعناقنا، ومقدسات لا يجوز التفريط فيها، أو التهاون بشأنها.. وإننا في ذكرى هذه القرار الأثيم بتقسيم أرض فلسطين لنجدد العهد مع أحرار أمتنا على الوفاء للقدس ولفلسطين كلها، ونثق في موعود الله لنا أن يعود الحق السليب، وتعلو راياته، وينتصر دينه (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ) سورة الحج من الآية 40.
والله أكبر ولله الحمد
د. محيي الدين الزايط
القائم بتسيير أعمال المرشد العام بجماعة الإخوان المسلمين
الاثنين 4 جمادى الأولى 1444هـ؛ الموافق 28 نوفمبر 2022 م