التاريخ : الثلاثاء 19 مارس 2024 . القسم :
هذه روايتنا: قراءة سياسية في وثيقة استراتيجية
بقلم د. عصام عبد الشافي
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية
في الحادي والعشرين من شهر يناير 2024، وبعد مرور نحو ثلاثة أشهر ونصف على معركة طوفان الأقصى التي أطلقتها حركات المقاومة الفلسطينية في إطار صراعها الممتد لتحرير الأراضي المحتلة منذ عام 1917- أصدر المكتب الإعلامي لحركة المقاومة الإسلامية وثيقة رسمية بعنوان “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى”.
تضمنت الوثيقة خمسة محاور أساسية، أولها: لماذا معركة طوفان الأقصى؟ وثانيها: أحداث 7 أكتوبر والرَّد على ادّعاءات وأكاذيب الاحتلال، وثالثها: نحو تحقيق دولي نزيه، ورابعها: تذكير للعالم من هي حماس؟ وخامسها: ما هو المطلوب؟
أكدت الوثيقة أن معركة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال والاستعمار لم تبدأ في 7 أكتوبر 2023، وإنما بدأت منذ 105 أعوام من الاحتلال ممثلة في 30 عاماً من الاستعمار البريطاني، و75 عاماً من الاحتلال الصهيوني، عانى خلالها الشعب الفلسطيني من كافة أشكال القهر والظلم ومصادرة الحقوق الأساسية وسياسات الفصل العنصري، فضلًا عن معاناة قطاع غزة من حصار خانق على مدار 17 عامًا، حتى تحول إلى أكبر سجن مفتوح في العالم كما تعرض لخمسة حروب مُدمرة، كانت إسرائيل هي البادئة في كلٍّ منها.
وانطلاقًا من هذا؛ شددت حماس على أن طوفان الأقصى كانت خطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والسيطرة على الأرض وهويتها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، والتخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
وأكدت حماس أنها استهدفت خلال تنفيذ العملية المواقع العسكرية الإسرائيلية، وسعت إلى أسر جنود العدو ومقاتليه؛ من أجل إطلاق سراح الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وتجنبت استهداف المدنيين، وخصوصًا الأطفال والنساء وكبار السن، كالتزام ديني وأخلاقي يتربى عليه أبناء حماس.
فحركة حماس، كما عرفتها الوثيقة؛ هي: حركة تحرر وطني، ذات فكر إسلامي وسطي معتدل، تنبذ التطرف وتؤمن بقيم الحق والعدل والحرية وتحرم الظلم كما تؤمن بالحرية الدينية والتعايش الإنساني الحضاري وترفض الإكراه الديني وترفض اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي. لذلك أكدت الوثيقة على أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعًا مع اليهود بسبب ديانتهم، فالحركة لا تخوض صراعًا ضد اليهود لكونهم يهودًا، وإنما تخوض صراعا ضد الصهاينة؛ لأنهم محتلون يعتدون على الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.
وفي نهاية الوثيقة، طرحت الحركة عدداً من المطالب الأساسية، من بينها: وقف العدوان الإسرائيلي فورًا على قطاع غزة، والعمل على معاقبة الاحتلال الإسرائيلي قانونيًا على احتلاله، ودعم المقاومة ضد الاحتلال بكل السُبل المتاحة باعتبارها حقًا مشروعًا وفقًا للقانون الدولي.
كما دعت دول العالم الحر، ولاسيما الدول والشعوب التي كانت مستعمرة وتدرك معاناة الشعب الفلسطيني، وخصوصًا الجنوب العالمي وكل هيئة ودولة ترفض الظلم- إلى أخذ موقف جاد وفعال ضد ازدواجية المعايير التي تمارسها القوى الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، وتوقف القوى الكبرى عن توفير الغطاء للكيان الصهيوني وكأنه دولة فوق القانون، ورفض أي مشاريع دولية وإسرائيلية تسعى لتحديد مستقبل قطاع غزة، والوقوف في وجه محاولات تهجير فلسطينييّ الداخل في الأراضي المحتلة، ومواصلة الضغوط الشعبية عربيًا وإسلاميًا ودوليًا لإنهاء الاحتلال.
وفي إطار ما تضمنته الوثيقة من مضامين، يمكن الوقوف على عدد من الأمور الأساسية، من بينها:
أولاً: الأهمية الكبيرة للوثيقة في هذه التوقيت، في ظل تداعيات معركة طوفان الأقصى، ومحاولات إسرائيل والدول التي تسير في فلكها ترسيخ سردياتها ورواياتها عن المعركة وعن حركات المقاومة؛ لذلك يكون من الأهمية بمكان في أوقات الصراعات، وفي الوقت الذي يكون للميدان العسكري رجاله، أن يكون للميدان السياسي رجاله الذي يضبطون البوصلة، ويصيغون الوثائق التي تؤسس للمرحلة، وتؤكد على الثوابت والمنطلقات، في مواجهة حملات التضليل السياسي والإعلامي التي لم تقف عند حدود الأطراف الغربية المؤيدة والداعمة للكيان الصهيوني، ولكنها امتدت لعدد من الأطراف العربية، من دول النظم المُطّبعة مع الكيان.
ثانياً: أهمية رد القضية إلى جذورها الحقيقية، وأن الاحتلال الصهيوني ليس وليد اليوم، وليس وليد عام 1948، عندما أسست بعض القوى الغربية كياناً للصهاينة على الأرض الفلسطينية واعترفت به، لكنه يعود إلى الاحتلال البريطاني لهذه الأراضي، منذ أكثر من 105 أعوام، واستخدام موارده وقدراته لتسهيل الهجرات اليهودية وتوطين العصابات على هذه الأرض، وحمايتها حتى تستكمل بنيتها، ثم ترك الرعاية والحماية للراعي الأمريكي بعد انهيار الإمبراطورية البريطانية في الحرب العالمية الثانية.
ثالثاً: أهمية الوثيقة في ضبط المفاهيم للمتأرجحين والمتشككين الذين خدعتهم بعض الحملات الإعلامية وتعاطوا سلبياً مع مقولة أن حماس هي البادئ بالعدوان، لأنها كانت المبادرة بالحرب في السابع من أكتوبر 2023، وهو أمر من المهم تدقيقه، لأن الحرب لم تبدأ في هذا التاريخ؛ لكن هذا التاريخ كان محصلة لعقود من الاحتلال والاستبداد والانتهاك للأرض والعرض والدماء والثروات والمقدرات والمقدسات، ونتيجة طبيعية لنحو 17 عاماً من الحصار و5 حروب مدمرة للقطاع.
وهو ما يؤكد أهمية قيام الحركات والجماعات السياسية أو المسلحة، بضرورة الرصد الدقيق لمضامين الحملات التي تستهدفها، وتحاول النيل من صورتها الذهنية، ثم بناء الرؤى الدقيقة الواضحة والمحددة لتفنيد هذه المضامين وتلك الحملات، وخاصة مع وجود قطاعات شعبية عربية تأثرت بتلك المضامين، وأخذت تلقي باللوم على حركات المقاومة الفلسطينية، وأنها السبب فيما يتعرض له القطاع من عمليات إبادة جماعية على أيدي العصابات الصهيونية وآلة الحرب الأمريكية، من البر والبحر والجو.
رابعاً: أهمية الوثيقة في ضبط الأرقام والإحصاءات فيما يقوم به الاحتلال من انتهاكات، مؤكدة على أنه عندما تحدث الاحتلال عن الذين سقطوا يوم طوفان الأقصى، يتجاهلون سقوط نحو 12 ألف شهيد و157 ألف مصاب فلسطيني بين عام 2000 وسبتمبر 2023، أغلبيتهم العظمى من المدنيين، وخاصة من الأطفال والنساء والشيوخ، وفق تقارير رسمية دولية وثَّقتها مؤسسات الأمم المتحدة، ولجان التحقيق الدولية، والمنظمات الحقوقية الدولية، الحكومية وغير الحكومية.
وهنا تأتي أهمية التأكيد في عملية توثيق الأرقام والبيانات على ضرورة الاعتماد على المنظمات والمؤسسات والأطراف الدولية والإقليمية والتقارير التي تصدر عنها، باعتبارها أطرافاً يتم النظر إليها في بعض الأحيان على أنها محايدة، وتشكل تقاريرها مستندات يمكن تحريك دعاوى دولية استناداً عليها، وعدم الاكتفاء في مثل هذه الحالات على التقارير والبيانات الصادرة عن حركات المقاومة أو السلطة الفلسطينية، لأنه سيتم تصنيفها على أنها منحازة.
وهذا ما ثبتت أهميته في الدعوى التي حركتها دولة جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، وظهر واضحاً في النص الرسمي الذي ألقته رئيسة المحكمة في أثناء جلسة النطق بالقرار، حيث كانت معظم الاستشهادات والاقتباسات من تقارير وبيانات وتصريحات المؤسسات والهيئات الأممية.
خامساً: أهمية الوثيقة في التأكيد على الجانب القيمي والأخلاقي لحركات المقاومة الفلسطينية، في مواجهة العدو في الميدان، وفي التعامل مع أسراه، رغم عمليات الإبادة الجماعية والتدمير الشامل، ورغم كل الأساليب والممارسات غير الشرعية وغير الأخلاقية وغير القانونية التي تقوم بها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين وأراضيهم، دون تمييز بين طفل وشيخ، رجل وامرأة، مدني وعسكري، أو أخضر ويابس، على الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع من الجميع.
في المقابل كشفت ممارسات حركات المقاومة، كيف كان تعاملهم مع الأسرى، الذين تم الإفراج عنهم، وكيف يتعاملون مع الجرحى منهم، لكن هذا مع أهميته ونشره مصوراً، ومقروءاً ومسموعاً، حتى تتداوله وسائل الإعلام المختلفة في مواجهة تزييف الحقائق الذي يمارسه الصهاينة، كان من المهم أن يتم التوثيق له في هذه الوثيقة الرسمية، لأنه سيتم النظر إليها فيما بعد على أنها دستور المرحلة أثناء المواجهة العسكرية.
لذلك جاء تأكيد الوثيقة الرسمي على: «إنَّ تجنُّب استهداف المدنيين، وخصوصاً النساء والأطفال وكبار السن، هو التزامٌ ديني وأخلاقي يتربّى عليه أبناء حماس”. و”أنَّ مقاومتنا منضبطة بضوابط وتعليمات ديننا الإسلامي الحنيف، وأنَّ استهداف جناحها العسكري هو لجنود الاحتلال، ومن يحملون السلاح ضد أبناء شعبنا. وفي ذات الوقت، نعمل على تجنّب المدنيين، رغم عدم امتلاكنا للأسلحة الدقيقة، وإنْ حصل شيءٌ من ذلك فيكون غيرَ مقصود، وإنَّما في ظل ضراوة المعارك التي نخوضها دفاعاً عن النفس وردّ العدوان، في مواجهة قوَّة عدوانية استعمارية طاغية، تقوم بقتل أطفالنا ونسائنا وشيوخنا ليل نهار، وبكل أنواع الأسلحة الفتاكة والدقيقة”.
سادساً: كان من المهم في الوثيقة، في إطار تفنيد الأكاذيب الصهيونية، الاستناد إلى الشهادات والتقارير الرسمية في وسائل إعلام الكيان المحتل نفسه، مثل موقع موندوفايس Mondoweiss، وصحيفتي يديعوت أحرونوت 15/10/2023، وهآرتس 18/11/2023 الإسرائيليتين، وغيرها من مصادر في مواقع مختلفة من الوثيقة، لأن المخاطب من الوثيقة ليس -فقط -العرب والمسلمون، ولكن كل شعوب العالم المعنية بالقضية الفلسطينية.
سابعاً: حِرص الوثيقة على التأكيد على المسارات السياسية والقانونية للمواجهة مع العدو الصهيوني في نفس الوقت الذي تتم مواجهته عسكرياً على الأرض في كل مدن فلسطين وقراها، لذلك نصت على: «أن مقاومة الاحتلال بالوسائل كافة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، هو حق مشروع كفلته جميع الشرائع والأديان السماوية، وأقرّته القوانين الدولية، من اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافي الأول، إلى إعلانات وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومن أبرزها قرار الأمم المتحدة 3236 في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، والذي أكّد أيضاً على حق الشعب الفلسطيني في العودة، وفي تقرير المصير. وإن هذ الحق الثابت أكّدته أيضاً الممارسات والقرارات الدولية طوال فترات الاستعمار والاحتلال الأجنبي للكثير من البلدان التي نالت استقلالها في نهاية المطاف”.
وفي مقابل هذا النص الذي يؤكد لحركات المقاومة الفلسطينية حق الدفاع الشرعي عن النفس، كان من المهم النص أيضاً على أن هذا الحق لا يتمتع به كيان احتلالي استيطاني بالأساس، لذلك نصت الوثيقة على: «إن الاحتجاج الإسرائيلي بذريعة “حق الدفاع عن النفس” في قمعها للشعب الفلسطيني، هي عملية تضليل وكذب وقلب للحقائق. فليس من حق الاحتلال أن يدافع عن احتلاله وجرائمه، وإنما من حق الشعب الفلسطيني أن يقوم بالمقاومة لإجبار الاحتلال على إنهاء احتلاله، ولتحقيق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني. ونذكّر بأن القانون الدولي، بما في ذلك فتوى محكمة العدل الدولية بخصوص الجدار (2004)، لا تقر بوجود حق لـ”إسرائيل”، باعتبارها القوة المحتلة الغاشمة بما يسمى “الدفاع عن النفس”. وإن العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة الذي ما يزال تحت الاحتلال وفق القانون الدولي، فاقدٌ لمبرراته القانونية والأخلاقية، ولجوهر فكرة الدفاع عن النفس”.
وبعد..
فإن صدور هذه الوثيقة في هذا التوقيت، وفي ظل معركة طوفان الأقصى، خطوة مهمة في توقيت بالغ الأهمية، وتأكيد على أن للحرية ركيزتين أساسيتين، الأولى صلبة يحملها المقاومون في الميادين الحربية، والثانية ناعمة يحملها المقاومون في ميادين السياسة والإعلام والقانون والدبلوماسية ..، ولا يمكن الفصل بينهما، بل إن التقصير في أي منهما ستكون له نتائجه السلبية على الأخرى. إن صدور الوثيقة بهذه المضامين في هذا التوقيت، هو درس لكل المدافعين عن الحرية والكرامة في مواجهة الظلم والفساد والاستبداد، أياً كان موقعه وأياً كان زمانه.