التاريخ : الثلاثاء 19 مارس 2024 . القسم :

دروس تربوية من طوفان الأقصى


الجهاد هو السبيل.. هذا ما يجب أن نعيه تمامًا، ونسير ونعمل على ضوئه. فضعف الإيمان قد وصل بالمسلمين إلى ما وصلوا إليه من هوان وتفكك وتحكم لأعداء الله في مقدراتهم وفتنة بعضهم عن دينهم. وبعث الإيمان في القلوب من جديد هو المنطلق الأساسي للنهوض، وبعث الحياة في الأمة الإسلامية؛ لتستعيد قوتها وتتحرر وتأخذ مكانتها التي اختارها الله لها كخير أمة أخرجت للناس، وكأساتذة للبشرية بهذا الدين الحق؛ كي يخرجوهم به من الظلمات إلى النور.

وأول القوة قوة الإيمان والعقيدة، ثم قوة الوحدة والترابط بين المسلمين لتوحيد الجهود؛ ثم تأتي قوة الساعد والسلاح حينما لا يجدي غيرها، وهذا هو دور الجهاد. وقد اقتبس الإمام الشهيد حسن البنا ضرورة هذه القوى الثلاث وبهذا الترتيب من سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وحركته بالدعوة حين أقام دولة الإسلام الأولى. 

يقول الإمام حسن البنا في رسالة (هل نحن قوم عمليون):” وأما الجهاد فهو عزُّ الأمة، فقد ورد في الصحيح أن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- كان يسير مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت... ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ...”.

فالأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة، وتجتاز دور انتقال خطير، وتريد أن تبنى حياتها المستقبلة على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب - في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس، وتشييد الأخلاق، وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة؛ حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات، ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب.

إن الرجل سر حياة الأمم، ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعًا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة”.

والذي يشاهد ويعايش ما يدور على أرض غزة العزة- في عملية طوفان الأقصى الذي بدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م - يعلم أنهم يخوضون ملحمة جهاد بطولية ضد العدو الصهيوني المحتل، وإنها خطوة ضرورية واستجابة طبيعية، لمواجهة ما يُحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على المسجد الأقصى والمقدسات، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، وخطوة طبيعية في إطار التخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال والحرية كباقي شعوب العالم، وحق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

إن الكيان الصهيوني لا تنتهي تطلعاته الاستعمارية عند حدود فلسطين، وإنما غايته التي أعلنها” إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات”. ولا يخفى على أحد دور الدول الغربية في دعم هذا الكيان، ومن وراء ذلك الصهيونية العالمية التي تغذي هذا الاتجاه الاستعماري، للسيطرة على العالم، وكسر أي مقاومة تقف في طريق غايتها، خاصة إذا كانت تنطلق من منطلق إسلامي.

والله عز وجل خاطب أمة الإسلام بقوله:” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون علن المنكر وتؤمنون بالله”. وقال: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). ففرض عليهم إقامة هذا الدين دين الإسلام الذي به يتحقق العدل والرحمة للبشرية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). والمسلمون جميعا مقصرون إن لم يقوموا بهذا الواجب.

والإمام البنا يقول مخاطبا إخوانه: اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:
أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطانٍ أجنبيٍّ، وذلك حقٌّ طبيعيٌّ لكل إنسان لا ينكره إلا ظالمٌ جائرٌ أو مستبدٌ قاهرٌ.
أن تقوم في هذا الوطن دولةٌ إسلاميةٌ حرةٌ تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة وتبلِّغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها.
وتؤكد حركة المقاومة الإسلامية(حماس) في تقريرها: أنَّ معركة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال والاستعمار لم تبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإنَّما بدأت قبل ذلك منذ 105 أعوام من الاحتلال؛ 30 عاماً تحت الاستعمار البريطاني و75 عاماً من الاحتلال الصهيوني. والآن، وبعد أكثر من 75 عاماً من الاحتلال والمعاناة، وإفشال أيّ أمل بالتحرير والعودة، وبعد النتائج الكارثية لمسار التسوية السلمية، ماذا كان يتوقّع العالم من شعبنا أن يفعل؟ هل كان المطلوب من شعبنا أن يواصل الانتظار والرّهان على الأمم المتحدة ومؤسساتها العاجزة، أم أنَّ الردَّ الطبيعي على تلك الممارسات هو مبادرة شعبنا للدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته؟! علماً بأنَّه حقٌّ مكفول في القانون الدولي، والشرائع والأعراف البشرية.
إن الأحداث التي نعيشها وتعيشها الأمة الإسلامية مع المجاهدين على أرض فلسطين، تعرفنا كيف أرغمت المقاومة الفلسطينية أنوف الصهيونية العالمية، وغيرهم ممن يدعمون هذا الكيان الغاصب. إن غزة تمثل انتصار الثبات، وإن نجاح المقاومة الفلسطينية، وسر تمكين حماس، وإكسابها تفوقا نوعيا على المستويين العسكري والسياسي، يعزى – كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين- إلى خمسة أصول: 
المرجعية الفكرية: المستمدة من نصوص الوحي.
البناء الإيماني: من حيث الإعداد الروحي، والترقي الإيماني؛ الذي يصل به إلى أن يتجرد لفكرته ويصفو لرسالته.
الرؤية السياسية: فرؤية الحركة السياسية توفر للجهد القتالي مساحة للحركة.
التفوق النوعي: فمعايير الالتحاق بالكتائب صارمة، وشروط الاستيعاب محكمة.
بوصلة مشروع التحرير: فالخيارات الإستراتيجية للكتائب محكومة بمؤشرات الرؤية التحريرية الكلية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف فعل رجال المقاومة في غزة خلال الأشهر الأربعة الماضية كل هذا؟ الإجابة ببساطة، يجيب عنها الأستاذ محمد أسوم: أنهم قد ساروا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس روح الجهاد، وحب الاستشهاد، وعاشوا في كنف هذه المعاني الإيمانية العظيمة:
فالبيعة مع الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).
والتجارة مع الله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).
والشهادة فضل من الله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ).
والأرض مباركة من الله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
والفتح وعد من الله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
والابتلاء والزلزلة تمحيص من الله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
والأجل محدود من الله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ).
إن “ طوفان الأقصى” وما حدث فيه يدفعنا إلى استلهام بعض الدروس التربوية:   
فإسلامنا يخبرنا بأنه لا نصر يتحقق دون إعداد العدة له بدليل قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون) [الأنفال: 60]. فالنصر مشروط بإعداد العدة له وبغير ذلك لن يتحقق. 
والخطاب الديني يجب أن يحرِّض الأمة على أنْ تعدَّ وتستعد؛ لأننا عندما ننظر لشمولية الصورة نتساءل من هم الذين سينهون وجود دولة تملك ترسانة نووية معززة بترسانة من الأسلحة المتطورة ومدعومة من قوى البغي والاستعمار، وتستطيع هي وأعوانها بضغطة زر واحدة إنهاء وجود دولنا المفككة فقيرة العدة والعتاد والاستعداد.
أهمية الإعداد للطليعة المقاومة؛ من حيث: الإعداد العقدي والإيماني، والإعداد الروحي والنفسي، والإعداد الفكري والعقلي، الإعداد القيادي، والإعداد الأمني، والإعداد البدني والجسدي، والإعداد المالي والاقتصادي، والإعداد الإعلامي والتعبوي، والإعداد الاجتماعي والحاضنة الشعبية. 
سئل الإمام البنا يوما عن المستقبل فقال: “إنه يبدأ الآن، عليكم بهذا النشء جِدوا في تكوينه، وأحسنوا تربيته وتوجيهه؛ علموه استقلال القلب والنفس، بعيدا عن الآبائية والتقليد. علموه استقلال العقل والفكر بعيدا عن النمطية والتكرار، علموه استقلال العمل والجهاد بعيدا عن الجمود والمراوحة في مكان واحد. جندوه تحت زعامة النبي ورايات القرآن، وسوف تجدون منه -غدا - الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه ليسعد غيره”.