التاريخ : الأربعاء 20 مارس 2024 . القسم : قضايا وملفات

من تراث الإخوان: رسالة الأستاذ البنا إلى مفتي فلسطين والمؤتمر الإسلامي


بقلم الإمام الشهيد حسن البنا

بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر

نحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، ونصلى ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا فى الله حق جهاده، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

وبعد.. فإن العالم الإسلامي كله يقدر لكم حسن جهادكم، وسديد رأيكم فى الدعوة إلى هذا المؤتمر المبارك، وجمعية الإخوان المسلمين بالقاهرة والمحمودية وشبراخيت وبورسعيد والإسماعيلية بالديار المصرية تقدم لسيادتكم جزيل شكرها وجميل تقديرها، ونرجو التكرم بعرض هذا البيان على هيئة المؤتمر الموقرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسن البنا

«حضرات السادة المحترمين أعضاء المؤتمر الإسلامي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد.. فإن أربعمائة مليون من المسلمين فى أنحاء المسكونة يرمقون نتيجة المؤتمر بقلوب تخفق بالأمل والإشفاق، وتنتظر منكم المواقف المشرفة التى ترفع رأس الإسلام والمسلمين، ومن ورائهم أصحاب المطامع يتربصون بالمؤتمر الدوائر، ويحيكون له الدسائس.. ولن يتربصوا به إلا إحدى الحسنيين، وسيرد الله أهل الكيد بغيظهم لم ينالوا خيرًا.
أيها السادة أعضاء المؤتمر:
يجب أن تقدروا هذا تمام التقدير، ويجب أن تثبتوا للأمانة التى أخذتموها على عاتقكم، وهى النظر فى خير المسلمين بحكمة وإخلاص، ويجب أن تتصل قلوبكم بقلوب المؤمنين التى تحوطكم، وبأرواحهم التى ترفرف على مؤتمركم، وبآمالهم التى تحوم حولكم، والله من وراء الجميع محيط، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

أيها السادة أعضاء المؤتمر:
إن الإخلاص أساس النجاح، وإن الله بيده الأمر كله، وإن أسلافكم الكرام لم ينتصروا إلا بقوة إيمانهم وطهارة أرواحهم، وذكاء نفوسهم، وإخلاص قلوبهم، وعملهم عن عقيدة واقتناع جعلوا كل شىء وقفًا عليهما حتى اختلطت نفوسهم بعقيدتهم، وعقيدتهم بنفوسهم، فكانوا هم الفكرة، وكانت الفكرة إياهم، فإن كنتم كذلك ففكروا والله يلهمكم الرشد والسداد، واعملوا والله يؤيدكم بالمقدرة والنجاح، وإن كان فيكم مريض القلب معلول الغاية مستور المطامع مجروح الماضي فأخرجوه من بينكم، فإنه حاجز للرحمة حائل دون التوفيق، وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن وجود قوم معروفين بسيماهم بين المؤمنين مثبط لهممهم فقال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾[التوبة: 47-48].

فابدأوا عملكم أيها السادة الكرام بتصحيح الإخلاص وتحقيق النية فى العمل يكن صرح عملكم مشيدًا وأثره خالدًا إن شاء الله تعالى، وإن جمعية الإخوان المسلمين تشارككم فيما تقررون، وتقاسمكم على البعد عبء ما تحملون، تبعث إليكم بتحيات أعضائها مشفوعة بالإجلال لأشخاصكم، والتقدير لعملكم، والإعجاب الكبير لفكرتكم، ولولا أعذار قاهرة، وظروف طارئة لكان من أعضائها بينكم من ينادى بكلمتها، ويمثل هيئات إدارتها، وإن ثقتها بكفاءتكم تخفف عنها ألم التخلف مع القاعدين، وقد أعذر الله للمتخلفين إذا نصحوا لله ولرسوله والله غفور رحيم، وهى لذلك تدلى بنصيحتها مجملة فى المقترحات الآتية بعد تقديرها لما تستطيعه الأمم الإسلامية من وسائل العمل.

مقترحات جمعية الإخوان المسلمين:
أولاً: الدفاع عن فلسطين
أمر الدفاع عن فلسطين، والمقدسات الإسلامية عامة أمر يهم المسلمين جميعًا، ولسنا بصدد استعراض أدوار قضية العدوان والدفاع، فذلك شىء ألممتم به حضراتكم كل الإلمام، ولكن المهم الآن أن تفكروا فى الوسيلة العملية لكف المعتدين وشل حركاتهم فى حدود السلم والقوانين.

لقد علمنا أن الخطب والاحتجاجات لا تجدى ولا تسمع، وترى الجمعية أن من واجب المؤتمرين أن يعالجوا:
1- مسألة شراء الأرض بفلسطين: إن اليهود يحاربون الفكرة الإسلامية بذهبهم، وإذا تمكنوا من شراء أرض فلسطين صار لهم حق الملكية فقوى مركزهم وزاد عددهم، وبتوالي الأيام تأخذ المسألة شكلاً آخر، وقد نظم اليهود هذه الحركة وجعلوا لها صندوقًا خاصًا يجمعون فيه الاكتتابات لهذه الغاية. فحبذا لو وفق المؤتمر إلى إيجاد نواة لصندوق مالي إسلامي، أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنى عنها، وتنظيم رأس المال وطريق جمع الاكتتابات وسهوم هذه الشركة. إلخ.

2- والجمعية تكتتب مبدئيًّا فى هذه الفكرة بخمسة جنيهات مصرية ترسلها إذا قرر المؤتمر ذلك على أن تتوالى بعدها الاكتتابات، ولا يضحك حضراتكم هذا التبرع الضئيل فالجمعية تقدر الفكرة، وتعلم أنها تحتاج إلى الآلاف من الجنيهات، ولكنها جرأت على ذلك إظهارًا لشدة الرغبة فى إبراز الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل.

3- تأليف اللجان فى كل البلاد الإسلامية للدفاع عن المقدسات: كذلك تقترح الجمعية أن يعالج المؤتمر موضوع تأسيس لجان فرعية لجمعية رئيسية مركزها القدس أو مكة، وغايتها الدفاع عن المقدسات الإسلامية فى كل أنحاء الأرض، وتكون هذه اللجان الفرعية كلها مرتبطة تمام الارتباط بالمركز العام.

ثانيًا: لنشر الثقافة الإسلامية
المسلمون الآن فوضى فى ثقافتهم، وهذه الفوضى فى الثقافة تؤدى إلى فوضى فكرية وتباين فى العقائد والأفكار والمشارب والأخلاق، فإذا دام الحال فسيأتي يوم يتنكر فيه المسلم للمسلم من التنافر والتناكر فلا يفهم أحدهما الآخر، واعتبر ذلك بما تراه بين أبناء المعاهد التى تربى أبناءها تربية دينية والتي تربى أبناءها تربية يسمونها علمانية فى البلد الواحد.

فليفكر المؤتمرون فى الوسائل التى تؤدى إلى توحيد الثقافة الإسلامية وتقريب مسافة الخلف بين أنواعها، وجعلها مؤسسة على الفكرة الإسلامية، ونصيرة لها شاملة للتوفيق بين هذه الفكرة وبين الأفكار الحديثة، وترى جمعية الإخوان أن من الوسائل إلى هذه الغاية:

1- إنشاء جامعة فلسطين: على نحو كلية عليكرة بالهند تجمع بين العلوم العصرية، والعلوم الدينية، وترفرف عليها روح الإسلام وتصطبغ بصبغته، مع احتوائها على الكليات العلمانية فى العلوم والآداب والسياسة والقانون والتجارة والاقتصاد والطب والفلسفة وغير ذلك.

2- إنشاء جامعة أخرى: بمكة على هذا النحو حتى ينجح مشروع جامعة القدس إن شاء الله تعالى.

3- نداء علماء المسلمين: أن يؤلفوا لجانًا فنية لتهذيب الكتب الإسلامية القديمة، وتصنيف كتب جديدة تفي بحالة العصر الجديد مع التفكير فى مناهج التعليم بأنواعه.

4- نداء أغنياء المسلمين للاكتتاب: فى صحيفة عامة يومية إسلامية تصدر فى القاهرة، ويكون لها مثيلات فى الحواضر الإسلامية تحمل فكرة القادة الإسلامية إلى الشعوب، فإن الصحافة الشرقية تقف من الشئون الإسلامية موقفًا لا يرتاح إليه الضمير.

5- العناية بالوعظ والإرشاد: والتفكير فى أنجع الوسائل لتخريج الوعاظ.

وترى الجمعية أن من أهم الوسائل تربية الوعاظ تربية دينية عملية تكون أشبه بتربية الصوفية المحققين فى الجمع بين العلم والعمل، ويكون ذلك بالسعي لدى أولى الأمر فى الأقطار الإسلامية لافتتاح أقسام الوعظ، وتعديل مناهجه تعديلاً صالحًا.

ثالثًا: لربط الشعوب الشرقية
لا سلاح للشرق يرهب غاصبيه إلا الاتحاد والتكاتف، وقد أدركت أمم المطامع ذلك، فهى دائمًا تحول دون هذه الوحدة بمختلف الوسائل إما بتسميتها تعصبًا أو بإفهام البسطاء أنها تنافى الوطنية والقومية، وإما بمغالطة الناس بأنها فكرة عتيقة يجب التبرؤ منها، وكل ذلك غير صحيح فهذه أوروبا تنادى بالوحدة وتنشرها بين أممها، وعصبة الأمم صورة مصغرة لذلك، ولم يقل أحد فى الدنيا: إن التفكك والانقسام أفضل من الوحدة والوئام، ولكنها مطامع وأهواء تلبس الأمر غير حقيقته.

فالوحدة ضرورية لحياة الشرق ضرورة الهواء والماء والغذاء لحياة الشخص، وترى الجمعية أن من الوسائل التى تؤدى إلى ذلك:
1- تقوية رابطة التعارف بين المؤتمرين أنفسهم.

2- تأليف لجان لهذا التعارف فى كل بلد فيه أجناس مختلفة من الشرقيين كالقاهرة وبغداد وغيرهما.

3- دعوة زعماء الشعوب الشرقية إلى طرح المطامع، وتقدير الموقف الدقيق الذى يحيط بهم هذه الأيام.

رابعًا: للدفاع عن العقيدة الإسلامية:
إن أعداء الإسلام من الملاحدة والمبشرين يجدّون فى تشويه عقائده، وإدخال الشكوك على أبنائه ويبتكرون الوسائل المختلفة لذلك، ومن ورائهم أغنياؤهم يمدونهم بالغي، وفى طغيانهم يعمهون. ومن واجب المؤتمر التفكير فى أنجع الوسائل لدفع عدوانهم ودرء خطرهم.

وترى الجمعية أن من الوسائل الناجعة فى ذلك:
1- أن ينشر أعضاء المؤتمر فكرة تأليف اللجان التى تتولى تحذير الناس من دسائسهم، والرد عليهم بما يكفهم.

2- أن تشجع الجمعيات الإسلامية التى أرصدت نفسها لهذه الغاية.

3- أن يعنى الوعاظ بدراسة هذه الناحية ويحذروا الناس منها.

مشروعات إسلامية أخرى:
1- مشروع سكة الحديد الحجازية.
2- مشروع مكتب الاستعلامات الإسلامي.

تقترح الجمعية أن يفكر المؤتمر فى إنقاذ سكة الحديد الحجازية من اليد الأجنبية، ويعمل على بدء العمل فى تنميتها حتى ينتفع المسلمون بها فى أقرب فرصة ممكنة. وتقترح كذلك أن يدرس المؤتمر مشروع مكتب الاستعلامات الأوروبي، ويوقف الناس على مبلغ الفائدة التى تعود على المسلمين من ورائه ثم تجمع الاكتتابات مبدئيًّا له، وتؤلف اللجان التى تقوم بأداء هذه المهمة.

وختامًا فالمؤتمر الإسلامي خطوة واسعة فى طريق الإصلاح المنشود للإسلام والمسلمين ترجو الجمعية أن يكون لها أثرها، وأن يتجدد انعقاد المؤتمر بعد مدة معلومة.

ولتثقوا أيها السادة بأن العالم الإسلامي من ورائكم يجود بالنفس والمال فى سبيل إعادة مجد الإسلام، ووصول الأمم الإسلامية إلى حقوقها المنقوصة مصداق قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[التوبة: 111-112].»

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (719)، السنة الثالثة، 2 ذو القعدة 1367ﻫ- 5 سبتمبر 1948م، صـ10-11.