التاريخ : السبت 06 يوليو 2024 . القسم : مجلة الدعوة

الهجرة.. وحياة العاملين لدين الله بين الألم والأمل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. [التوبة: 40].

فمما لا شك فيه أن الهجرة النبوية كانت حدثا عظيما غيَّر مجرى التاريخ، وأثَّر في حياة البشرية كلها، وكانت فرقانا فرق الله به بين الحق والباطل، وكانت السبيل إلى وضع أسس الدولة الإسلامية التي خرج منها الدعاة والمجاهدون الذين نشروا نور الله في الأرض، وعلى أيديهم دخل الناس في دين الله تعالى أفواجا.

يظلنا ذكرى هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ونحن نعيش بين عامين: عام منصرم بما فيه من آلام وآمال، وعام جديد قادم؛ نتطلع فيه إلى ما يسعد النفس ويفرح القلب؛ في شأن الأمة الإسلامية، بأن يرفع الله عنها ما ألمَّ بها من ظلم على يد الطغاة المستبدين. وأن يفرِّج كرب إخوة لنا وأخوات غيبتهم يد الطغيان خلف أسوار السجون، لا لشيء إلا لأنهم دعاة حق وإصلاح، دخلوا السجون بلا ذنب اقترفوه ولا جريمة ارتكبوها، إنما هو الظلم الذي حرَّمه الله على نفسه وجعله بيننا محرما.

تظلنا ذكرى الهجرة، وقد تغرّب الآلاف، بل الملايين من المسلمين وتركوا ديارهم وأموالهم، هاجروا في سبيل الله؛ نصرة لدينهم ودعوتهم وشرعيتهم، ووقوفا في وجه الظلم والاستبداد والجبروت. يُأمِّلون ما عند الله من الرضا والمتاع، ويلتقون مع الصحابي الجليل صهيب الرومي الذي ترك ماله ودياره فرارا بدينه؛ فقال له النبي: «ربح البيع أبا يحيى». إنها التجارة مع الله أيها الأحباب.

تظلنا ذكرى الهجرة مع حدث "طوفان الأقصى" وإخواننا في غزة وفلسطين الحبيبة نزل بهم ما نزل من اللأواء والشدة؛ فدمّر العدو الصهيوني ديارهم، وقتل أطفالهم ورجالهم ونساءهم، وهجِّروا من ديارهم، بلا مأوى ولا طعام، على يد عدو مجرم، وبدعم أمريكي وأوربي خسيس. ويذكرنا هذا بما نزل بآل ياسر عندما كان يقول لهم رسولنا الكريم في مكة: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». ثم كان أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأقاموا دولة الإسلام، وفتحوا مكة، وبات الإسلام قويا عزيز المنال.

ولهذا فنحن واثقون في موعود الله لعباده المؤمنين؛ فالموعد الفصل والجزاء في الآخرة. فإن فاتهم حظ الدنيا؛ فإن ما عند الله من الرضا والمتاع ينتظرهم، وينتظر كل من ضحَّى من أجل دين الله، ليمكّن له في الأرض، كما قال ربنا سبحانه: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: 13].
تظلنا هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ وقد تبيَّن- بعد أحداث طوفان الأقصى- حاجة العالم إلى الإسلام؛ دين الرحمة والسلام والأمان ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 107].

وذلك بعد أن فشلت الحضارة الغربية بالزعامة الأمريكية والأوربية في قيادة العالم نحو السلام والأمان. هذه الحضارة القائمة على المادية المحض، التي تصادم الفطرة السوية التي خلق الله الإنسان عليها ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [ سورة الروم من الآية 30].

هذه الحضارة الاستعمارية التي نهبت ثروات البلاد وخيراتها، ودمَّرت القيم والأخلاق، والمعاني الإنسانية بزعم الحرية والتحرر. لقد كانت تقدم نفسها للعالم على أنها الحضارة التي تحافظ على حقوق الإنسان وتنشر الديمقراطية والسلام. ثم ظهر عوارها وانفضح سرّها بعد طوفان الأقصى؛ فهي لا تعرف حقوق الإنسان إلا إذا كان يصبُّ في مصالحها، ولا تعرف الديمقراطية إلا إذا أفرزت من يرضى بسياستها ويصبح تابعا لها، ولا تعرف من السلام إلا اسمه، وما يتماشى مع مصالحها.

وفي ذكرى الهجرة يقول الإمام البنا رحمه الله: (( أيها الإخوة إن المبادئ التي جاء بها النبي- صلى الله عليه وسلم- والتي ركَّز لها كفاحه في مكة قد أُحيطت بقلوب رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فإذا نحن حاولنا أن ننجح كما نجحوا فعلينا أن ننتهج بنهجهم، ونسلك مسلكهم، وإنهم باعوا أرواحهم لله، وضحَّوا بأنفسهم في سبيل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: الآية 111].

ومضى صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ عشرَ عامًا يغرس في النفوس مبادئه القويمة وتعاليمه النافعة، ويكرِّر ذلك حتى تعيَه القلوب وتمتزج به الأرواح، وهو بعد هذا يعتقد أن الله أقرب إليه من كل ما عداه، فإذا دعا فلله، وإذا تكلم فلله، وإذا أحسن عملاً فلوجه الله ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: من الآية 7].

يؤمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حق الإيمان بذلك، ويعلم علم اليقين أن أهل السماء والأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحدًا أو يضروه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: من الآية 154] ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: من الآية 4].. هذا المبدأ يا أخي، وهذه الفكرة استقرت في قلوب طلبة مدرسته الأولية صلى الله عليه وسلم، واستولت على صميم قلوبهم، يعتزون بها ويعملون لها، وما كان لصاحب العقيدة السليمة أن يُفتَن في عقيدته ﴿وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: من الآية 2].

استقر هذا المبدأ وتمكَّنت هذه العقيدة في نفوس المؤمنين الأُوَل، ثم جاءت الهجرة وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ما هم عليه من العزم والقوة، يتأهبون لها ويسارعون لنيل شرفها، وما كان لهم من قوة يستنصرون بها إلا اعتزازهم بالله واعتمادهم على الله.. وها هو ذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستعد للهجرة وفي صحبته أبو بكر الصديق ثم يخرج ليلاً تاركًا وطنَه وحب قلبه، وأي ألمٍ للنفس وأي شدة لها من أن يترك الإنسانُ بلده ومسقط رأسه، ولكنه في طاعة الله وابتغاء مرضاة الله!!

هكذا يا أخي امتُحِن المهاجرون بالإيمان القوي والصبر، وامتُحِن الأنصارُ بالحب الكامل فنجحوا جميعًا، واستقر المجتمع بتلك المبادئ السامية التي علا بها قدرُ الإنسان وشرفت بها قيمة الإنسان.

أيها الإخوة.. هذه المبادئ التي توحيها الهجرة ها أنتم درستموها وقرأتموها، ولكني أصارحكم أنَّ الدرسَ شيء والعمل بها شيء آخر، كما أنَّ الأخلاق شيء والعمل بها شيء آخر، وعِلم الدين شيء والعمل بالدين شيء آخر. إنَّ القلوب لم تتَّجه بعد ولا تريد أن تؤدِّيَ الامتحانَ، وإذا كان هذا حالها فيا ضيعة العمر!! لهذا أهيب بالإخوان المسلمين إذا عرضوا لاحتمال شيءٍ عظيمٍ أهيب بهم إذا عزَّ ذلك على الأمة أن يكونوا نماذج للدعوة الحقة، فإذا رآهم الناس قد تحمَّسوا واعتزُّوا بالإيمان، وتحلوا بالصبر والوفاء والحب والتآخي والبذل والاستعداد والتضحية في سبيل الحق، فسيعملون بعملهم ويتحمسون بحماسهم، فإن الحقوقَ تُطلَب ويُكَافَح في سبيلها.

فسيروا أيها الإخوان على بركة الله، عاملين على إعلاء كلمة الحق، التي يجب أن تتجه إليها قلوبكم اتجاهًا قويًّا ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: الآية 139].

والمتأمل في أحداث الهجرة النبوية إلى يثرب (المدينة المنورة) يجد العديد من الدروس والعبر التي ينبغي استلهامها والتوقف عندها والأخذ من معينها، ومن هذه الدروس والفوائد والعبر:

  1. الصِّراع بين الحقِّ والباطل صراعٌ قديمٌ، وممتدٌّ.
  2. مكر خصوم الدَّعوة بالدَّاعية أمرٌ مستمرٌ متكرِّرٌ.
  3. حسن الإعداد والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله.
  4. الإيمان بصدق وعد الله للمؤمنين مهما كانت العقبات والصعاب في طريق الدعوة.
  5. الأهوال والصعاب من سمات الدعوات (إنَّ في الله عوضًا عن كلِّ فائتٍ).
  6. المهاجر الداعية والعمل مع المجتمع

يؤكد الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله على أن الداعية إذا هاجر وانتقل من حال إلى حال فعليه أن يمارس دعوته مع المجتمع الجديد تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: ((إنَّ الهجرةَ إذا تمت لا تكون لينعزل الداعيةُ ومن معه عن المجتمع الذي ارتحلوا إليه ثم حلوا فيه مستطيعين فيه أن يؤدُّوا واجبَهم وهم على شيءٍ من الأمن والاطمئنان، على المهاجر أن يعلم علم اليقين- اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم- أنَّه هاجر ليواصِلَ العمل وليبلّغ الرسالةَ وإلا فما بلَّغ الرسالة، أليس هذا أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام؟! ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67).. فأي مسلم بعد هذا الأمر الواضح الصريح يبتعد عن تبليغ دعوته، خاصةً إذا أتاح الله له من الظروف ما يستطيع معه أن يبلِّغ الرسالةَ على أي صورةٍ من الصور؟!)).

أيها الإخوة الكرام..

ستظل أحداث الهجرة المباركة تجدد فينا الأمل، وتبعث فينا الهمة والعزم، نحو مجد الإسلام وعز الإسلام؛ وما علينا إلا أن نظل عاملين لهذا الدين (لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى). مهما كلفنا ذلك من تضحيات. فنحن نتعزى بمعرفة الله، ونطمع في رضى الله، وما أعده لعباده المجاهدين من أجر جزيل وثواب عميم وجنة عرضها السماوات والأرض. إن الذي يطالع حالة الاستضعاف التي كان عليها المسلمون قبل الهجرة لا يصدق – عقلا- أنه سيأتي يوم ويدخل رسول الله وصحبه الكرام مكة فاتحين. إلا أن القرآن الكريم يؤكد لهم أنهم سيعودون إليها يوما ما، لا شك في ذلك ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [القصص: 85].

 

الدكتور صلاح عبد الحق

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون

السبت 30 ذي الحجة 1445هـ؛ الموافق 6 يوليو 2024م